الرأي العام الغربي بين طوفان الأقصى وازدواجية المعايير
يدرك الاحتلال جيداً أن لا قيمة للمسار القانوني والإنساني الدولي في انتزاع حصانته سوى أنه يقف عاجزاً عن تثقيل المصطلحِ السياسي على القانوني، كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية في حربها على أفغانستان والعراق.
حُسِمَت معركة الرأي العام لمصلحة المقاومة الفلسطينية أو تكاد... سقوط السردية الإسرائيلية وانكشاف عري الخطاب الإعلامي الغربي بعد أسبوع واحد من معركة طوفان الأقصى جاء كنتيجةٍ منطقية لتطور أدوات الإعلام الشعبي والرسمي لمحور المقاومة، واستجابة لحالة الإغراق البصري التي مارسها الناشطون على امتداد جغرافيا وسائل التواصل الاجتماعي، والتي وثقت بالصوت والصورة استهداف المدنيين وتدمير البنية التحتية ومرافق الأمم المتحدة والمستشفيات والمدارس.
كيف يمكن تفسير الازدواجية الغربية في الخطاب الرسمي بين ثنائية الانتصار للقيم الإنسانية في الحرية والعدالة والمساواة والانصياع لرواية الاحتلال ورفض التهم المتعلقة بالإبادة الجماعية كما فعلت ألمانيا؟ وهل يخشى الغرب حقاً أن تتكشف صورة الاحتلال كمجرم حرب أم أنه يخشى تداعيات هذه الصورة في المخيال الجمعي للإنسانية، فتعود واحة الديمقراطية والتقدم العلمي في الشرق المتخلف إلى حقيقتها كمشروعٍ صهيوني مجرم... وأداة وظيفية في المنطقة؟
في الحقيقة، إن ما تجلى من قدرة على تظهير صور الإبادة الجماعية وإعادة إنتاجها وتكثيف محتواها شكل صدمة للرأي العام الغربي، ولكن ومن جهة أخرى، فإن صورة المقاوم بلباسه المدني وقدرته على الصمود وتحقيق المنجزات العسكرية شكل عاملاً إضافياً وحاسماً في تثبيت صورة النضالات التاريخية لأصحاب الأرض، وساعد على استحضار القضية الفلسطينية على مستوى الرأي العام الغربي بعد عقود من التخلي والغياب، ومهد لصعود العديد من التناقضات البنيوية في الخطاب الإنساني الغربي، سواء على مستوى التساؤل عن أسباب استثنائية كيان الاحتلال تاريخياً أو من خلال حجم الرياء والنفاق والازدواجية في الخطابين الإعلامي والسياسي.
وبات السؤال الأكثر إلحاحاً على مستوى الرأي العام الغربي: كيف يمكن فهم ما قامت به المقاومة الفلسطينية خارج سياق الرواية الصهيونية، وخارج القوالب الجاهزة للإعلام الغربي؟
هنا تماماً شكلت وسائل التواصل الاجتماعي البيئة الإعلامية الأكثر تحرراً وتنوعاً من حيث قدرتها على تقديم العديد من السياقات التاريخية لما حدث في السابع من أكتوبر، ما أدى بالضرورة إلى تأسيس بعض التغيرات الجوهرية في كيفية النظر إلى القضية الفلسطينية، وتحديداً عند بعض فئات المجتمع الغربي، إذ أظهر استطلاع لصحيفة نيويورك تايمز أن "الناخبين الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً أكثر انتقاداً بكثير من الناخبين الأكبر سناً لسلوك إسرائيل ورد فعل الإدارة الأميركية على الحرب الإسرائيلية".
وأظهرت استطلاعات للرأي العام الأميركي فيما بعد السابع من أكتوبر حدوث انقسامٍ سياسي داخل المعسكر الديمقراطي بعد ارتفاع عدد المؤيدين للقضية الفلسطينية ممن صوتوا للرئيس الأميركي جو بايدن حتى 20% ([1]).
وبهذا، فإن الغرب الرسمي الذي أجاد إنتاج نظام دولي على مقاسه وأحاطه بالقوانين الدولية والقيم الإنسانية، شعر ولأول مرة بأن كل هذه الأدوات الوظيفية للسيطرة والتفوق والهيمنة سقطت بالضربة القاضية، بعد ما تكشف من عجز قياداته السياسية على تسويق جرائم الحرب الإسرائيلية، وأن حجم الألم في مخاض انتزاع الحرية في فلسطين قد يدفع المزيد من الأوروبيين إلى شق عصا الطاعة، تتنازعهم بعض الحوامل الإنسانية... والكثير من القلق الوجودي على أفكار الليبرالية الأوروبية واحترام الحرية وسيادة القانون، وبالتالي كان لا بد من إعادة هيكلة الخطاب السياسي الغربي والخضوع بشكل مؤقت لتبدلات الرأي العام، وهذا ما يفسر التبدلات الجذرية في الموقفين الفرنسي والبريطاني.
من جهة أخرى، يدرك الاحتلال جيداً أن لا قيمة للمسار القانوني والإنساني الدولي في انتزاع حصانته سوى أنه يقف عاجزاً عن تثقيل المصطلحِ السياسي على القانوني، كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية في حربها على أفغانستان والعراق، "فالصورة تثبت أن إسرائيل لا تدافع عن نفسها، وأن المقاومة الفلسطينية ليست إرهاباً، وبالتالي فإن مجرد وقوفه في محكمة العدل الدولية كمتهم بارتكاب جرائم حرب إنما هو انزياح ثقيل للرأي العام العالمي عن فكرة مظلومية الشعب اليهودي و"الهولوكست" التي تشكل عماد الفكرة الصهيونية والعلامة المسجلة "لدولة إسرائيل".
تدرك حكومة الاحتلال ويمينها المتطرف كل ذلك التأثير المتصاعد لمعركة طوفان الأقصى. ولعل تفلت الشارع الغربي من سرديات الأدلجة الصهيونية يشكل الحدث الأكثر استثنائية لجهة قبوله الرواية الفلسطينية المتعلقة بحتمية المواجهة بين الشعب الفلسطيني وآلة الحرب الإسرائيلية القابلة للهزيمة وجيشها الذي لقب يوماً بأنه لا يقهر.
إن طرح الحق الفلسطيني كطرف مكافئ لما يسمى "دولة إسرائيل"، بغض النظر عن محاولات تقزيم النتائج العسكرية لقوى المقاومة وتحجيمها سياسياً، يشكل أكبر مخاوف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو بالنسبة إليه نقطة اللاعودة في إعادة هيكلة الرأي العام الغربي، وإعلان انهيار لمسار التطبيع خارج المحددات الفلسطينية، والذي قدم للرأي العام الغربي على أنه النموذج النهائي لمعضلة الشرق الأوسط. وهنا بيت القصيد.
إذاً، هل يقف الغرب الرسمي مجبراً خارج محدداته الأخلاقية التي لطالما تشدق بها ليدافع عن وجود بات في مهب الريح وخشية ما تبدى من هجرة عكسية لمزدوجي الجنسية في كيان الاحتلال أم ليستعيد بعضاً من صلاحية منتجه الفاسد الذي أعلنَ عنه في 14 أيار/مايو 1948، وكخطوةٍ استباقية لمزيد من تبدلات الرأي العام، أم أن الإنسانية في عرف هذا الغرب تخضع لازدواجية التفوقِ، وهي مصطلح لا يتجاوز في مقصوديتهِ حدود القارة العجوز؟