الحبس المنزلي.. عندما تصبح العائلة هي السجان

ضمن سياسة "الحبس المنزلي"، تتحوّل العائلة إلى سجان، إذ تُطالب بمتابعة نشاط طفلها، ومراقبة حركته طوال فترة الحبس، وتعيش حالة من القلق الدائم.

  • الحبس المنزلي.. عندما تصبح العائلة هي السجان
    الحبس المنزلي.. عندما تصبح العائلة هي السجان

في نظريتهما "الردع" حول الجريمة وتحقيق مبدأ العقوبة، يقول العالمان بيكاريا وبنثام إن "للردع هدفين؛ الأول الردع الفردي، والآخر الردع العام". 

بالطبع، هذا ما يمارسه الاحتلال على النضال الفلسطيني، إذ يعتقد أن "النضال" "جريمة". لذلك، يقوم بتطبيق نظرية "الردع" على الفلسطيني بشكل فردي، إما عن طريق قتل الفلسطيني "الشهادة"، وإما "اعتقاله" لفترات متفاوتة داخل السجن، أو ممارسة نظام "الإبعاد" سواء داخل فلسطين أو خارجها وغيرها من الأساليب المتنوعة التي تؤثر في البعدين السيكولوجي والسوسيولوجي للفلسطيني كفرد، وهذا التطبيق حتماً له تأثير في البعدين السيكولوجي والسوسيولوجي للجماعة "الفلسطينيين"، وهنا نقصد الردع العام. 

يقول ميشيل فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" إن المؤسسة، والقصد هنا "السجن"، وخصوصاً في العصر الحديث، تقوم على "التعقب ومراقبة الأفراد طوال حياتهم". وإذا قمنا بإسقاط هذا النص على أطفال فلسطين، وخصوصاً الأطفال المقدسيين، نستطيع القول إن الهدف الأساسي من "الحبس المنزلي" هو إشعار الطفل بأنه مراقب، وبأن الاحتلال موجود في أدق تفاصيل حياته.

هذا "الردع الفردي" يجعل الطفل يشعر، حتى بعد عملية التحرر من "الحبس المنزلي"، بالخوف الشديد إذا أراد الخروج من البيت، كما تحدث كثير من الدراسات، ما يدل على أن استخدام هذا النظام من العقوبة جاء لإفقاد الطفل الشعور بالأمان النفسي والاجتماعي داخل بيئته الاجتماعية والنفسية.

يمارس الاحتلال نوعين من "الحبس المنزلي": الأول، يقوم على حبس الطفل في بيته، وعدم الخروج منه مطلقاً طوال الفترة المحددة، والنوع الآخر، يعدّ أشد خطورة، ويتمثل في "الحبس المنزلي" في بيت أحد الأقارب، بعيداً عن العائلة ومنطقة السكن، وذلك يسبب وجود أعباء اقتصادية واجتماعية على العائلة.

 وضمن سياسة "الحبس المنزلي"، تتحوّل العائلة إلى سجان، إذ تُطالب بمتابعة نشاط طفلها، ومراقبة حركته طوال فترة الحبس، وتعيش حالة من القلق الدائم، وتنطبق عليها مقولة: "أكثر الناس قلقاً في السجن هو السجان".

والأصعب من ذلك هو منع الطفل من تجاوز البوابة الخارجية للمنزل. وإذا استطاع ذلك، على العائلة أن تقوم بإبلاغ سلطات الاحتلال، إذ إن كسر الطفل لبنود الاتفاق يؤدي إلى اعتقال الكفيل.

 ويحرص الاحتلال دوماً على وضع "سوار إلكتروني" مع "GPS" لتتبع تحركات الطفل، ومراقبة مدى الالتزام بفترة "الحبس المنزلي". وفي مراحل متقدمة، وغالباً بعد أشهر، يسمح للطفل بالتوجه إلى المدرسة أو العيادة برفقة الكفيل الذي يكون من أفراد العائلة. إن إدخال العائلة كجزء من العقوبة هنا هو ما يسعى الاحتلال من خلاله لتحقيق مبدأ "الردع العام".

للحبس المنزلي أشكال متعددة من التأثير في حياة الطفل، وخصوصاً أن بعض الأطفال يتكرر بحقهم "الحبس المنزلي". ومن أشكال تأثير "الحبس المنزلي" في الطفل، الرقابة الذاتية التي تسبب الضغط الشديد على سيكولوجية الطفل، ما يولّد لديه توتراً، وقلقاً، وخوفاً، وعصبية، إضافة إلى أوقات الفراغ الكبيرة التي يعيشها الطفل، إذ يصبح الروتين مرضاً قاتلاً. ومن أهم أشكال التأثير الذي يسببه "الحبس المنزلي" هو التراجع في التحصيل العلمي.

تناولت العديد من الدراسات قضية "الحبس المنزلي". وخلال قراءة مطولة لهذه الدراسات، توصلت إلى نتيجة مهمة هي أن "الحبس المنزلي" يمارس على الأطفال دون سن 14 عاماً، لأن القانون الإسرائيل لا يجيز اعتقالهم.

 في قراءة "الحبس المنزلي" من زاوية الأرقام، يقول الباحث عبد الناصر فروانة في دراسته الأخيرة: "قام الاحتلال بإصدار نحو 2200 قرار بالحبس المنزلي بين كانون الثاني/يناير 2018 وآذار/مارس 2022، بحق أطفال قصر، 114 منهم كانت أعمارهم تقل عن 12 عاماً"².

 وبيّنت النتائج أيضاً أنَّ الاحتلال قام عام 2021 باعتقال 1300 طفل، منهم 750 طفلاً من القدس، يشكلون 57.7% من مجموع الأطفال المعتقلين³. هذه الأرقام تدل على تغول الاحتلال بحق الطفولة الفلسطينية، وحرمان الأطفال من ممارسة حياتهم بشكلٍ طبيعي.

كثيرة هي القصص التي يمكن الاستشهاد بها حول "الحبس المنزلي". وعلى سبيل التوضيح وليس الحصر، يقول الطفل زيد الطويل من مدينة القدس: "عندما سمعت وشقيقي أن الاحتلال سيقوم بتحويلنا إلى الحبس المنزلي، اعتقدنا أنه سيكون أفضل من السجن العادي، ولكن بعد فترة، اكتشفنا أنه ممل ومتعب جداً، حتى تمنيت تحويلي إلى السجن العادي".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

¹. العرجا، ناهدة، 2017، تأثير الحبس المنزلي في الأطفال الفلسطينيين في مدينة القدس، مجلة جامعة بيت لحم.

². أبو شمالة، مهند، 2022، الحبس المنزلي.. سيف مسلط على رقاب المقدسيين، مجلة الهدف.

³. مرجع سابق.

من الواضح أن كلمات الطفل زيد الطويل تقوم بتلخيص حكاية "الحبس المنزلي"، إذ يتحول البيت إلى معتقل، وذلك أصعب بكثير من السجن المتعارف. ونستطيع بالعمق القول إن البيئة الاجتماعية تتحول إلى مصدر إزعاج نفسي، وتتحول الغرفة إلى "زنزانة"، والأم والأب والعائلة إلى سجان، كما أسلفنا سابقاً.

 وهنا، ينطبق ما قاله الشاعر عبد الرحمن الأبنودي: "السجن هو أخيراً حرمان كامل من امتلاك الوقت والزمن والأمكنة، والعيش خارج الحياة".

في فلسطين، يذهب الأطفال طوعاً إلى السجن، وهو قرار صعب، إذ يختار أطفال القدس بين سجنين؛ إما سجن البيت، وإما السجن المتعارف. هو شعور القهر في منطقة الوسط، حيث سلب حرية الإنسان لا يكمن في السجن نفسه، بل في سلبه حرية الاختيار، لأن الاختيار هنا هو سجن من نوع آخر، وخصوصاً عندما يذهب معه أقاربه لتوديعه على بوابة المعتقل.