الجنوب السوري.. آخر حروب "إسرائيل" في سوريا
بعد عودة الدولة إلى الجنوب السوري، بقيت القوى التي كانت تدعم هؤلاء المسلحين علانيّةً في السابق على دعمها الآن لكن في الخفاء.
يَرى العدو الإسرائيلي أن عُمق أمنه القومي يمتد إلى العُمق العراقي ويصل إلى مدينة الفلّوجة، والعُمق الاستراتيجي الضّامن لحصانة جبهته الدّاخليّة هو درعا والقنيطرة والسّويداء. لذا، فإن ما يحدث في الجنوب السوري من عمليات استنزاف عسكري واشتباكات متكررة مع الجيش السوري، وعمليات الاغتيال، يشير إلى عمل تنسيقي كامل، بين بقايا المسلّحين الإرهابيين و"إسرائيل"، يقوده عدد من الاستخبارات الدولية مثل "إسرائيل" وأميركا، على سبيل المثال لا الحصر، وتقاومه الدولة السورية بكل حذر.
لقد ساهمت الطبيعة الجغرافية من خلال الأرض ذات المساحة الواسعة والمزارع البعيدة عن الأنظار والتي تحوّلت إلى مخازن أسلحة، والكهوف التي أصبحت ملاذاً آمناً لتَمترُس المُسلّحين، والبيئة الحاضنة جُزئياً في الجنوب السّوري لهؤلاء الإرهابيين في العمل بارتياح، نظراً إلى أن عدداً من هؤلاء المسلحين هم أبناء تلك المناطق نفسها من جهة، ولوجود دعم خارجي لهم من جهة أخرى، لكن يبقى السؤال الأهم، كيف تعبث الأيادي الإسرائيلية في الجنوب السوري الآن؟
لم يعُد خفيّاً أن "إسرائيل" تُشكّل إحدى الأذرُع التي تعبث في الجنوب السوري، وقد تمثّل ذلك بالأسلحة الإسرائيلية التي سلّمتها الفصائل المُسلّحة للجيش العربي السوري عام 2018 بعد تحرير الجيش العربي السوري هذه المناطق، وبالعدوان الصهيوني المُتكرّر على النقاط الحسّاسة والعسكرية التابعة للجيش السوري، وحتى خلال سنوات الحرب ومنذ بداية الأزمة من خلال استهداف النقاط العسكرية التابعة للجيش السوري، والقصف المدفعي الإسرائيلي التمهيدي لِبَث غطاء للمُسلّحين أثناء المعارك المُهمّة ضد الجيش السوري.
الأمر لم يقِف عند هذا الحد، فقد ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية في حزيران/ يونيو 2017 أن "إسرائيل" موّلت وسلّحت عدداً من الفصائل في الجنوب السوري، وكذلك نقلت الصحيفة تصريحاً لأحد قادة فصيل "فرسان الجولان"، والمعروف باسم "أبو صهيب" أن العلاقة بدأت مع "إسرائيل" حينما تمت مُعالجة آلاف من الجرحى المسلحين والمدنيين في مستشفيات الاحتلال الإسرائيلي، ثم أردَفَ قائلاً: إن "إسرائيل" وقفت إلى جانبنا، ومن دون مساعدتها، لما استطعنا أن نصمد!
كل هذه الأمور وأكثر، ونعني هنا: تفكيك أنظمة وصواريخ الدفاع الجوي من قبل "جبهة النصرة" و"الجيش الحر" وتسليمها لضباط استخبارات دولية، من أهمهم ضُباط الموساد، وتنفيذ أوامر الموساد وغيره في الهجوم على القواعد العسكرية وقواعد الدفاع الجوي وفرض حظر جوّي في هذه المناطق ليستبيح الطيران الإسرائيلي الأجواء السورية، من دون مُضايقات، في حقبة ما قبل العام 2018 قبل أن تُسقَط طائرة وتتحوّل مناطق تنفيذ العدوان إلى خارج الأجواء السورية.
وأيضاً دخول "أصحاب الخوذ البيض" وعدد من قادة الفصائل المُسلحة والمدنيين والصحفيين وما عُرف باسم "شاهد عيان" إلى الأراضي المحتلة، وصولاً إلى المرحلة الرّاهنة التي أصبحت تتزامن فيها عمليات الاشتباك والهجوم من قِبَل تنظيم "داعش" على النقاط والمناطق العسكرية التابعة للجيش السوري مع العدوان الصهيوني من الجو!
والتقرير الذي ذكرته إحدى الصحف الروسية في عام 2021 أثناء معارك درعا البلد، عن أن هُناك عناصر من الموساد الإسرائيلي قد كُشِف أمرهم في درعا البلد، واشتبكوا مع الجيش العربي السوري قبل أن يتم سحبهم وإخفاؤهم من قِبَل بعض عناصر "داعش"، والذين بطبيعة الحال ظهروا علانيّةً وهم يحملون الأسلحة الإسرائيلية ضمنها رشاش عوزي الإسرائيلي.
كل هذه الأمور كانت كفيلة أن تُثبِت المشروع الإسرائيلي في الجنوب السوري والذي كان يتمثّل بعدّة محاور، من أبرزها: خلق حزام آمن في الجنوب السوري من خلال مشروع "حسن الجوار أو الجوار الطيّب"، ومن ثم إنشاء منطقة آمنة ومنطقة خفض التصعيد والتي استُثنِيَت منها إيران في الجنوب السوري، ومن ثم مشروع إقليم الجنوب الذي فشل بعد عملية البازلت العسكرية عام 2018!
فما يحدث الآن، وبعد عودة الدولة إلى الجنوب السوري، بقيت القوى التي كانت تدعم هؤلاء المسلحين علانيّةً في السابق على دعمها الآن لكن في الخفاء، من خلال تأجيج الصراع بالسَّخط على الظروف المعيشية الصعبة وتسليط الضوء إعلامياً عليها، ومن خلال التنسيق الاستخباري مع أذرعها على الأرض في الداخل؛ كي تبقى هذه البُقعة من الجغرافيا السورية محكومة ومُقيّدة بالفوضى الخلّاقة، التي اعتدنا عليها طوال سنوات الحرب، لكن بشكل جديد معروف لدى الجميع ألا وهو "حرب العصابات"!
يرى البعض أن عمليات التسويات والمُصالحات التي أطلقتها الدولة السورية ورَعَتها روسيا، كانت تسويات فاشلة نوعاً ما، ونَميل هُنا إلى القول إنها ناجحة، فها هي قد نجحت في معظم المدن والبلدات على امتداد مساحة الوطن السوري.
وأودّ هُنا الإشارة إلى أن الدور الروسي في إقامة التسويات والمُصالحات، والذي كان حذراً أيضاً، وقد تمثّل ذلك بإرسال القوات الروسية جنوداً من الشيشان المُسلمين حتى يكونوا أكثر قُرباً من الأهالي من الناحية العقائدية الدينية، ولِيبثُّوا نوعاً من الارتياح والطمأنينة بين الأهالي من جهة، وحتى تضمن القوات الروسية عدم مُهاجمة عناصرها واستهدافهم على الأرض، من جهةٍ أخرى. فالتيّار التكفيري والعقلية التكفيرية قد تمكّنا من الأرض، وتغلغلا في بعض مفاصل هذه المناطق على مدار أكثر من عشرِ سنوات.
لذا، كان من الضروري وضع هذا الأمر في الحُسبان بالنسبة إلى القوات الروسية قبل أن تنتشر الشرطة العسكرية الروسية على الأرض، وفي ساحات القتال. لكن، لماذا لا يزال ينقض بعض الأطراف من المسلحين السابقين هذه التسويات، لا سيما ما يُعرف باسم "فصائل التسوية"، ولماذا يرفض بعض القادة الإرهابيين الآخرين هذه التسويات؟
إن الجواب عن هذا السؤال مُتشعِّب وطويل، وله عدّة أسباب، لكن وبعد انتصار الجيش العربي السوري عام 2018 وخروج قادة التنظيمات الإرهابية إلى إدلب، ظهرت بيانات من هذه التنظيمات في بعض مواقع التواصل الاجتماعي تدعو إلى استمرار الجهاد في الجنوب السوري، ولكن هذه المرّة من خلال "حرب العصابات"! وكما نعلم، فإن عدداً من الخلايا النائمة والعناصر المُنتمين والمُموّلين من هذه التنظيمات ينشطون على الأرض في هذه البُقعة.
ومن المُمكن أيضاً أن نُعبّر في معترض جوابنا ها هُنا، عن أن المعركة الحقيقية مع القوى المُشغّلة والمُحرّكة للمياه الرّاكدة في سوريا قد انتَهت في عديد من المدن والبلدات، فلذلك نجحت هذه التسويات والمصالحات في تلك المناطق إذ بات يصعب على القوى الخارجية التحكُّم فيها.
لذا، بدأت هذه الحرب، أو هذه المُواجهة، تنحصر تدريجيّاً حتى عادت إلى جُحرها الحقيقي ولُب الصراع الجَلِي، ألا وهو الجنوب السوري. وبما أن المعركة قد انتهت في مناطق أخرى وعادت المياه إلى مجاريها، والحياة إلى طبيعتها، باستثناء الجنوب السوري، سواء في السويداء أو درعا والقنيطرة، وتحديداً في تلك المناطق والبلدات المُتاخمة للحدود السورية – الفلسطينية، فالنتيجة تُصبح هُنا واضحة تماماً.
فقد نجحت الدولة السورية في تظهير صورة وهوّية ما حدث في جنوب سوريا منذ اللحظات الأولى للأزمة، من خلال حصر مناطق القتال وتقليصها، ولا شك في أن بَسط حالة من عدم الاستقرار والفوضى في الجنوب يأخذنا إلى مشهد أدق وأوضح، ويثبت أن الصراع الحقيقي الذي يشهده الجنوب السوري في هذه الأثناء هو بالحقيقة صراعنا الأساس مع "إسرائيل" ليس إلّا!
إذاً، تخشى "إسرائيل" من عودة الاستقرار إلى جغرافيا الجنوب السوري لقُربها من حدودها المؤقتة، نظراً إلى الموقف الواضح من عُمق الدولة في سوريا رفض التفاوض أو إخراج أيّ قوة عسكرية مقاومة لـ"إسرائيل" وأميركا في المنطقة، وفي ظهور مخاوف إسرائيلية كبيرة بسبب وجود إرهاصات حقيقيّة، واضحة وجليّة، عن خلق جبهة جنوبية جديدة على امتداد حدود الجولان المُحتل مثيلة لتلك الجبهة الجنوبية في لبنان لمقاومة الاحتلال.
وحتى في بيان الفرقة الخامسة الميكانيكية المُدرّعة في الفَيلق الأول للجيش السّوري منذ عدّة أيام عن تدريبات مُحاكاة سيناريو الهجوم بأسلوب حرب العصابات، والإطلاق من وضعيّات مُتحرّكة، واقتِحام تحصينات العدو. كان بياناً مُهماً جداً ورسالة ناريّة للعدو الإسرائيلي، لأن هذه الفرقة لها باع طَويلة جداً في الصّراع مع العدو الإسرائيلي، ويُطلق عليها اسم "حُرّاس الجنوب"، فهذه الفرقة موجودة في جنوب سوريا منذ وقت طويل، وخبرتها كبيرة جداً في التعامل مع العدو الإسرائيلي.
أضف إلى ذلك، أن الجيش السّوري اكتَسَب خبرة كبيرة جداً في حرب العصابات، أثناء تحرير المُدن السّورية، في هذه الحَرب التي امتدّت إلى أكثر من 10 سنوات. لقد بدأنا نرى إرهاصات العمل على تصدير حالة معيّنة استعداداً لحرب استنزاف طويلة المدى، يرتعد العدو الإسرائيلي خوفاً منها!
فتصريح أحد مسؤولي الكيان المُحتل عن إدارة الجنوب السوري وفق مصالحه، ودرء الصراع المسلح عن الداخل وقيام المُرتزقة بالقتال بدلاً منهم يتمثّل أمامنا اليوم في الجنوب السوري!
ويبدو حتى في التصريحات الرسمية الأردنية الأخيرة، والتي كانت تتناغم بشكلٍ أو بآخر مع التوجُّه الأميركي – الإسرائيلي في التخوُّف من أي تموضُع عسكري جديد في الجنوب السوري، أن الوضع قد يُشكِّل حرجاً كبيراً للأردن في قادم الأيام!
لكن أسلوب الصراع والمواجهة مع "إسرائيل" في هذه البُقعة، اليوم، يختلف قليلاً عن سنوات الحرب الماضية، فالمواجهة هُنا مُتقدّمة وشائكة في أساليب الحرب الحديثة والاستخبارية وطرق تقديم الدعم، وهذا العدوان الإسرائيلي، الذي لا نُبالغ في وصفه عدواناً، شبيه للعدوان المُتكرّر من الجو، ويمتد هذا من قاعدة التنف حتى حدود الجولان العربي المُحتل.