الإمام موسى الصدر وتأسيس مجتمع المقاومة
تأسيس الإمام الصدر للمقاومة، وتفعيل دور لبنان في الصراع مع "إسرائيل" يعدّ مشروعاً رائداً لدور لبنان في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي.
ينظر الإمام الصدر إلى "إسرائيل" ككيان عنصريّ توسّعي غاصب يستند إلى عقيدة مزيّفة وادّعاءات باطلة تبيح السيطرة والتوسّع وتعطي معتنقيها الاستعلاء على بني البشر.
ويعتبر أنّ: "محاربة هذا الكيان ليست محاربة للإنسان بسبب دينه، وإنما محاربة للظلم والفساد والانحراف ولفكرة التفريق العنصري التي يصفها القرآن الكريم في تحدّيه لهذا الاستعلاء اليهوديّ.. {إن زعمتم أنّكم أولياء لله من دون الناس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين{ (الجمعة،6). فوجود "إسرائيل" هو تجسيد للشرّ المطلق، وهي تشكّل تهديداً دائماً للعرب والفلسطينيين واللبنانيين، وهي نقيض القيم الإنسانية المتمثّلة بالعدل والخير وكرامة الإنسان ولا يمكن من الموقع الديني قبول بقاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين".
هذه الرؤية المبدئية العقائدية المرتكزة إلى فهم طبيعة المشروع الصهيوني وأُسُسه وممارساته وأساليبه، هي التي أملت مواقف الإمام الصدر من الكيان الصهيوني، وحدّدت وسائل التعامل مع وجوده اللاشرعي ودفعته إلى تأييد دعم المقاومة الفلسطينية واعتبارها "الخير المطلق طالما تقاوم الشر المطلق".
تُعدّ المقاومة وفقاً للإمام الصدر جزءاً أساسياً في استراتيجية الصراع مع الاحتلال الصهيوني، وهي تمثّل سبباً لإضعافه وإنهاكه. ولذا ينبغي المحافظة عليها والحرص على سلامتها، فقد كان دائم الترداد: "إنّ واجبي بذل كلّ ما أملك بما فيه حياتي في محاربة إسرائيل، لأنها العدو للعرب وللمسلمين والمسيحيين وللإنسانية ولله سبحانه وتعالى".
لذلك دعا الإمام الصدر الشباب اللبناني إلى تحمّل المسؤولية، لتحسس مأساة الجنوب ووعي خطره، ودعا إلى مجتمع حربوصمود لأنه مجتمع الدفاع والمقاومة حتى النصر أو الشهادة.
وكان الخطر المحدق بلبنان وأمنه وأرضه ومياهه من أسباب دعوة الإمام إلى حمل السلاح، وذلك بعدما بات الخطر الصهيوني واضحاً واعتداءاته لا تتوقّف. وجدير بالذكر أنّ الإمام الصدر قد ألقى من المحاضرات ما يتجاوز الستين، وأصدر عشرات البيانات، وأجرى مقابلات صحافية ومناقشات عدّت بالآلاف خلال سنة واحدة، وكان محورها الجنوب والخطر الصهيوني الداهم عليه.
وكثيراً ما حثّ الإمام الصدر الشعوب والأنظمة العربية، ووضعهم أمام خطورة المصير، وحثّهم على وجوب الدفاع عن الجنوب، ولطالما نبّه إلى خطورة إهمال ما يجري في الجنوب، وانعكاسه على مجمل أرجاء الوطن، إضافةً إلى ذلك، فقد كان يرى الإمام الصدر أنّ العدالة الاجتماعية وتنمية المناطق المحرومة ليست منفصلة عن مشروع دعم صمود الجنوبيّين. ومن أقواله في هذا المجال: "نريد الجنوب أن يكون منطقة منيعة، صخرة تتحطّم عليها أحلام إسرائيل، وتكون نواة تحرير فلسطين وطليعة المحاربين ضدّ إسرائيل".
كما هاجم الإمام الصدر الآراء السياسية التي تبالغ في تقدير قوة العدو الصهيوني، وترفض اتخاذ قرار المواجهة معه، واستبدال دور لبنان القوي بضعفه، محمّلاً أصحاب هذه الآراء مسؤولية تقزيم دور لبنان، وتهديد مصير جنوبه حيث لا سلام للبنان من دون سلامة الجنوب، وفي هذا الصدد يقول:
"إنّ إسرائيل قوية ولكنها ليست إلهاً أو أسطورة".
"إن التدريب على حمل السلاح واجب كتعلّم الصلاة، واقتناءَه واجب كاقتناء القرآن" .
"إنّ لبنان دولة مواجهة ويجب أن يكون منيعاً" .
"يجب تثبيت المفاهيم السياسية والدينية وتصحيحها وتوعية الناس على مخاطر الاعتداءات الإسرائيلية".
وبناءً عليه بدأت مرحلة التدريب، والتي لم تأخذ حقّها من الإعداد السري بسبب "انفجار عين البنية"، الأمر الذي عجّل في الإعلان عن تأسيس أفواج المقاومة اللبنانية (أمل). ومنها انتقل العمل إلى مرحلة استخدام السلاح ووضعه في خدمة الأهداف التي رسمها الإمام الصدر، ومحورها مقاومة الاحتلال الإسرائيلي حتى الاستشهاد. وكان لمقاومي حركة أمل شرف المقاومة في عدة مواقع جنوبية ضدّ العدو الصهيوني، وسقط منهم مئات الشهداء.
ولذلك سارع الإمام الصدر إلى رفض أيّ علاقة تمكّن "إسرائيل" من اختراق السياج الاجتماعي اللبناني وكسر جدار مقاطعتها ورفض التعامل معها، وكان موقفه قاطعاً في رفض المكر الصهيوني، وظهوره وكأنه حمل وديع، ويقول في ذلك: "إنّ العدو تحوّل من ذئب مفترس إلى حمل وديع يقدّم خدمات إنسانية ويذرف دموع التماسيح".
ويقول أيضاً: "وعلينا أن نعرف أنّ كلّ قطرةٍ من أدوية إسرائيل هي سمّ زعاف يسمّم أجسامنا وأجسام أولادنا، إنّ كلّ من يذهب إلى مستوصفاتها، إنما يذهب إلى وكر الأفاعي، علينا أن ندرك أنّ كلّ خدمة تقدّمها لنا إسرائيل وكلّ بضاعة نشتريها وكلّ رحلة توفّرها لنا، هي ضربة قاضية على وطننا وتاريخنا وكرامتنا".
إنّ هذه النداءات التي أطلقها الإمام والمواقف التي أبداها كانت الحجر الأساس في مقاومة التطبيع ورفض أيّ علاقة مع العدو تحت أيّ ظرف من الظروف. ولا شكّ أنّ تأسيس الإمام الصدر للمقاومة، وتفعيل دور لبنان في الصراع مع "إسرائيل" يعدّ مشروعاً رائداً لدور لبنان في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي.
عندما صارح الإمام الصدر المقرّبين منه بضرورة تأسيس مقاومة مسلحة ضد "إسرائيل" في العام 1964، كان الأمر أشبه بمغامرة أو سوء تقدير للعواقب، ولا سيما أنها كانت مقاومة ضد عدو كـ "إسرائيل"، ومع ذلك تواصلت جهوده التعبوية الخاصة والإعلامية العامّة في تعبيرها عن ضرورة قيام مقاومة ضد "إسرائيل".
وعندما قال عبارته الشهيرة: "السلاح زينة الرجال" ، كان قد باشر عملياً بإعلان قيام مقاومةٍ لبنانيةٍ في الجنوب. وشرح الإمام وأوضح أبعاد ما قاله، بعدما سعت بعض وسائل الإعلام إلى إدراج ذلك القول في سياق طائفي، مبعداً هذه التكهّنات عن التداول والشحن.
ومما أعلنه: "أنّ الواجب يدعونا أن نكون مقاومة لبنانية قبل أن نتشرّد في أراضينا، وعلى كلّ شاب أن يتدرّب ويحمل السلاح لتأسيس مقاومة لبنانية تلقّن العدو درساً، وإذا مات منا عشرةٌ ومات منهم واحدٌ فهذا عظيم".
وتعدّدت الخطابات لقيام المقاومة، وللوقوف بوجه "إسرائيل"، وليكون المجتمع مجتمعاً يحمل معاني الصمود والممانعة. وفي السادس من تموز/يوليو 1975 أعلن الإمام الصدر ولادة المقاومة اللبنانية بثوابتها وأهدافها، والتي أصبحت الآن، أي المقاومة، عصب الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. وكان من ثمار حركة الإمام الصدر في تفعيل دور لبنان في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، النهوض بالمقاومة لتكون رأس الحربة في ذلك الصراع، والتي كانت أولى ثمراتها هزيمة "إسرائيل" وخروجها صاغرة من دون قيد أو شرط من أرض الجنوب في العام 1985، وتالياً في 25 أيار/مايو من العام 2000.
"أسهم الإمام الصدر في بلورة رؤية معمّقة وشمولية لاستراتيجية إسرائيل في لبنان، كما شدّد على ضرورة بناء مجتمع مقاوم، يرتكز إلى استراتيجية وطنية مضادة للمشروع الإسرائيلي".
وبهذا المعنى اكتسبت رؤية الإمام الصدر صوابيّتها من التنبّؤ بما يحمله المستقبل من تدخّل إسرائيلي في لبنان، ومن تأثيرات الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي على السلم الأهلي اللبناني، ومن لا مبالاة الطبقة السياسية الحاكمة وانهماكها بمصالحها الخاصة، على حساب وطنٍ يقترب من الانهيار الشامل، ووفق هذه الرؤية انطلق من مسلّمين:
الأول: هو التشديد على عدم الفصل أو استحالة الفصل بين لبنان وجنوبه.
والثاني: هو تمييز الخطر الإسرائيلي عن غيره من المخاطر التي يتعرّض لها لبنان.
انطلاقاً من ذلك، نادى الإمام الصدر بالضرورة القصوى والعاجلة لاستراتيجية وطنية تقوم على الأسس الآتية:
ـ تعيين الأخطار الإسرائيلية، ووحدة الرأي والموقف منها وتحديداً الأخطار الأكثر بروزاً والتي تمثّلت بمحاولة تقسيم لبنان واحتلال الجنوب وتصفية القضية الفلسطينية.
ـ تحديد دور الدولة بصفتها المسؤول الأول في الدفاع عن وحدة الوطن وسيادته وكرامة شعبه.
ـ توحيد رؤية المجتمعين الأهلي والسياسي للخطر الإسرائيلي الشامل.
ـ بناء مجتمع مقاوم كشرط من شروط التصدّي لهذا الخطر، والصمود في مواجهته.
ـ تأسيس مقاومة لبنانية ضد "إسرائيل".
شكّلت مهمة بناء هذه الاستراتيجية الوطنية الهمّ الأكبر الذي حمله الإمام الصدر منذ بداية السبعينيات، ومن أجلها بذل جهوداً استثنائية أحاطت بها الشكوك من كلّ جانب، من دون أن تضعف إصراره أو توهن إرادته. وهو الذي أطلق التساؤل المقلق في ندائه إلى اللبنانيين حيث قال: "هل ننتظر الاعتداء والتشرّد، ثم نتحرّك وننتشر في أقطار الأرض نستجدي المساعدات والمساعي لإعادة الوطن وكرامة أبنائه؟ هل ننتظر قتل إخواننا وأبنائنا والدمار والاحتلال حتى نتحرّك؟".
ولكي لا يفقد اللبنانيون وطنهم ويفتشوا عنه في مقابر التاريخ. وحتى لا تتكرّر نكبة فلسطين في لبنان باشر الإمام الصدر مهمة البحث عن إجابة مقنعة عن هذا التساؤل المقلق. لذا لم يتأخّر في دقّ ناقوس الخطر في آذان اللبنانيين كافة: دولةً، وطوائف، وأحزاباً، وهيئات المجتمع الأهلي على اختلاف مشاربها واهتماماتها. ولذلك حذّر من السياسات القائمة على شعار" قوة لبنان في ضعفه"، ومن الابتعاد عن المشاركة في الهمّ العربي الواحد والمصير المشترك.
ونتيجة الاعتداءات المتكرّرة أسس الإمام الصدر "هيئة نصرة الجنوب"، والتي كانت شكلاً من أشكال الصراع ضدّ العدو الإسرائيلي، والتي شارك في تأسيسها رؤساء الطوائف في الجنوب. ومما لا شكّ فيه أنّ دعوة الإمام الصدر لبناء مجتمع مقاوم وتفعيل دور لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي، هو قناعته ويقينه باقتراب الخطر الإسرائيلي الشامل.