إحراق حوارة ليس النهاية بل ربما بداية الاشتعال الكبير
إن الأحزاب السياسية الصهيونية من يمينها إلى يسارها، ومن علمانييها إلى متدينيها، كلهم كانوا، وما زالوا، مع إحراق الشعب الفلسطيني، ولكنهم يختلفون في الأسلوب والوقت فقط.
لم توفر الحركة الصهيونية قديماً، وكيان الاحتلال حديثاً، أسلوباً قمعياً ووحشياً من أجل إخضاع الشعب الفلسطيني الثائر، ولم تكن حوارة، تلك البلدة الوادعة التي تقع جغرافياً على تقاطعات المستوطنات الصهيونية الأكثر تطرفاً، مثل "يتسهار" و"إيلان" و"موريه"، البلدة الأولى التي تُحرق بيوتها وممتلكاتها وسيارات مواطنيها، حتى قدّرت الخسائر فيها بالملايين.
جاءت هذه الخطوة انتقاماً لعملية حوارة التي قُتل فيها مستوطنان وجُرح آخرون، وهي تعود بذاكرة الفلسطيني إلى ما أكثر من 10 سنوات مضت، حين أُحرقت عائلة دوابشة كلها، واستشهد الأب والأم والطفل علي، وبقي أحمد يتجرّع ويلات الحرق وآلامه، وظل صورة شاهدة على براءة الأطفال من جهة، وعلى وحشية المستوطنين وحقدهم الدفين من جهة أخرى. ولم يكن محمد أبو خضير، ذلك الطفل الذي تم اختطافه وإحراقه حياً، إلا إسماً من الأسماء الفلسطينية الشاهدة على سوداوية هذه النار وبشاعتها.
لم تنجح كلّ محاولات التبرير التي روجت لها الماكينة الإعلامية الإسرائيلية أو المؤسسة الأمنية والعسكرية أو السياسية، بقولهم إنّ هؤلاء متطرفون أو مرضى نفسيون، لأن "إسرائيل" غطّت هذه الجريمة وحمتها ودافعت عنها، ولم تمنع المستوطنين من الوصول إلى حوارة، وهي التي تريد إحراقها، ولكن بأسلوب "الجيش" الإسرائيلي، وبسنّ القوانين في الكنيست، وبالعقاب الجماعي الذي يطال كلّ فلسطيني فيها.
استُخدم هذا الأسلوب في عملية التطهير العرقي في النكبة الفلسطينية سنة 1948. وقد أشار إلى ذلك الكاتب الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين"، حينما ذكر أن أحد الأساليب التي استخدمتها عصابات الهاغانا ولحي وشتيرن ضد الفلسطينيين كان يتمثل بإرهاب أهل قرية معينة، وجعلهم يهربون باتجاه مناطق جبلية تكون العصابات قد كمنت لهم فيها على رؤوس الجبال.
وما إن يصل الفلسطينيون إلى بداية الجبل، حتى تقوم هذه العصابات بدحرجة كتل من النار على شكل كرات ضخمة متتالية ومتتابعة، فيُحرق الفلسطيني مرتين؛ مرة حين يطرد من بيته وتسرق ممتلكاته، ومرة حين يحرق فعلياً!
سجّلت مؤسّسات حقوق الإنسان الدولية في فلسطين منذ انتفاضة الأقصى حتى جريمة إحراق حوارة آلاف الحوادث التي تمثّلت بإحراق الأشجار واقتلاعها، وإحراق المحاصيل الزراعية، وقتل المواشي والأغنام، والاعتداء على الممتلكات والأراضي الزراعية. ورغم أن هذه الجرائم ليست سرية، إنما تأتي في وضح النهار، فلم يحاكم أو يُسأل أي من هؤلاء المستوطنين.
وظلَّت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة داعمةً لحركة الاستيطان إعلامياً ومادياً وعسكرياً وقانونياً، من خلال شرعنة البؤر الاستيطانية وأعمال المستوطنين الإجرامية تحت عناوين ردود الفعل والدفاع عن النفس.
وإذا كان المستوطنون قد أحرقوا حوارة إحراقاً تقليدياً همجياً، فإن "جيشهم" وحكومتهم أحرقوا غزة وأهلها بالأسلحة الفسفورية المحرمة دولياً وبالنحاس المذاب، ونحن نذكر عملية "عناقيد الغضب" عام 1996 التي طالت الفلسطينيين في لبنان، وإحراق وكالة الغوث على رؤوس 100 من الأطفال والنساء الذين كانوا قد لجأوا إليها ظناً منهم أنها مكان آمن.
إن الأحزاب السياسية الصهيونية من يمينها إلى يسارها، ومن علمانييها إلى متدينيها، كلهم كانوا، وما زالوا، مع إحراق الشعب الفلسطيني، ولكنهم يختلفون في الأسلوب والوقت فقط.
ولم يسلم منبر المسجد الأقصى من محاولة الإحراق، عندما أقدم أحد المعتوهين، كما يحلو لهم أن يصفوه، على هذا الفعل في شهر آب/أغسطس 1968، حين لم تكن الأمة العربية قد التقطت أنفاسها وهي تتجرع مرارة النكسة والهزيمة.
إن المجتمع الإسرائيلي بكليته، وخصوصاً المستوطنين، ما زالوا يعيشون على وقع المحرقة النازية في ألمانيا. وما زالت عقدة الخوف والتآمر حاضرة لديهم، ومعها فكرة "عليك أن تَقتُل قبل أن تُقتل، وتَحرق قبل أن تُحرَق"، وهم يتعلمون في مدارسهم وجامعاتهم ومعاهدهم ذلك حتى لا تتكرر المحرقة اليهودية مرة أخرى.
لذلك، ولأبسط الأسباب، يجب أن نحرق الأخضر واليابس قبل أن يصل الخصم إلينا. هذا ما أشار إليه أبراهام بورغ في كتابه "لننتصر على هتلر"، وهو ينتقد الثقافة والتربية الصهيونية التي تعبئ الأجيال بهذه العقد.
لقد تبنّت "دولة" الاحتلال في كلّ حروبها خطة جابوتنسكي التي تتلخص في محاربة العدو في أرضه والاعتماد على الضربة الاستباقية وسياسة الأرض المحروقة كي تجعل الخصم يمكث فترة طويلة وهو يعيد حساباته، لكنهم يواجهون شعباً يملك من الإيمان والإرادة والجاهزية للتضحية ما لم تستطع كل الحرائق أن تطفئه أو تجعله يستسلم.