أين غزة في النظام العالمي؟
جاءت عملية طوفان الأقصى لتثبت دوراً، ليس للمقاومة الفلسطينية فقط، بل لكل فلسطين في تلك التحولات العالمية.
لمعركة طوفان الأقصى ارتدادات على النظام العالمي الذي هو قيد التشكل، وللتوسع في هذه الفكرة يمكننا الاستعانة بتصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن هذه ليست معركة "إسرائيل" فقط، بل معركة الحضارة في مقابل الوحشية، على رغم خطئه في تحديد من يمثل الوحشية ومن يمثل الحضارة.
إذاً، معركة طوفان الأقصى لم تكن ضمن المعارك المحلية التي اعتاد الفلسطينيون خوضها كل يوم، وهي أيضاً ليست ضمن إطار إقليمي كسابقاتها، بل هي تخطت كل ذلك لتضع لمسات على نظام عالمي، أظهرت أحداث كثيرة في الأعوام الأخيرة سعي عدة دول للتدخل في رسم ملامحه. وفي هذه السلسلة سنوضح بعض العوامل التي برزت في طوفان الأقصى -ولها انعكاس على تشكل النظام العالمي الجديد - وهي تتشابه مع عوامل ظهرت في مراحل مهمة في حياة النظام العالمي القديم.
التأثير في خطوط المواصلات
مع نشوء النظام العالمي القديم، واكبت تطورات مهمة مراحل نشوئه، ومن مجمل هذه التطورات النقلة النوعية في مجال المواصلات، وهي من التطورات التي استمدت منها تسمية "القرية الكونية"، بسبب ما لذلك المجال من تأثير في العالم. ومجال المواصلات هو مجال واسع يتضمن وسائل نقل البشر، بالإضافة إلى وسائل نقل البضائع، وأخيراً وسائل نقل الموارد من النفط والغاز. وعند النظر إلى المراحل التي نعيشها الآن، والتي نشهد فيها تشكل نظام عالمي جديد، يلاحَظ أن هناك أيضاً صراعاً على خطوط المواصلات الضخمة التي تؤدي دوراً مهمّاً في تحديد حدود قوة كل من الأقطاب الكبرى.
في هذا السياق، كان لفصائل المقاومة كلام آخر. فوسط التحولات الكبرى التي نعيشها، كان لا بد من فرض موقف يعيد إلى القضية الفلسطينية دورها داخل النظام العالمي الجديد.
فقبل عملية طوفان الأقصى، تكاثر الحديث، في نهاية اجتماع قمة العشرين، التي انعقدت في العاشر من أيلول/سبتمبر الماضي في الهند، عن مشروع الممر الاقتصادي، وهو ممر يتميز بربطه الهند ودول الخليج في مساره الأول، ويربط دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، بالأردن والاحتلال الإسرائيلي ثم أوروبا في المسار الثاني. وضعت أميركا في رأس أولوياتها مواجهة مشروع الحزام والطريق الصيني، عبر حشد الدعم لمشروعها المعلَن حديثاً، وتأتي المنافسة الأميركية - الصينية ضمن نزاع بشأن تثبيت المعادلات الخاصة بالبلدين في النظام العالمي الجديد.
فلسطين ليست بعيدة عن ذلك المشروع، فالممر يعتمد على موقع الاحتلال بصورة كبيرة، بصفته رابطاً بين آسيا وأوروبا، وهو في أمسّ الحاجة إلى الغاز.
لكن الحريص على عدم المس بالقضية الفلسطينية يرى أن في المشروع إنهاء دور كلّ ما هو فلسطيني ودعم قاعدة تمثيل الاحتلال لكيانه. لكن، على رغم تجاهل العالم لفلسطين، وحتى تجاهل بعض الفلسطينيين لخطورة الأمر، ظهر بعد عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر أن المقاومة الفلسطينية لم تكن غافلة عن الأمر.
من هنا، حرصت واشنطن على إبقاء الوضع في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً في الاحتلال الإسرائيلي، هادئاً، إذ تعتمد أميركا، بصورة كبيرة، على نجاح هذا المشروع، فهو يُعَدّ سلاحاً جديداً أعلنته أميركا بعد مرور أكثر من عقد على إعلان الصين مشروعها من دون تحرك أميركي معاكس.
وفي سياق الحديث عن أهمية خطوط نقل الموارد في السياسة الأميركية، لا بد من إيراد ما أشار إليه الكاتب كمال ديب، في كتابه "لعنة قايين"، بحيث أوضح أن سياسة أميركا منذ العقد الأول من الألفية - وهي فترة مفصلية في تاريخ النظام العالمي القديم - تركزت على مشروع يربط مصادر الغاز في عدد من البلدان لتغذية أوروبا الغربية. ويؤكد الكاتب أنه من دون نجاح مشروع أميركا ستكون هناك ستة مشاريع غاز تغذي أوروبا خارج النفوذ الأميركي. استناداً إلى ما سبق، يمكن تبين أن مشاريع نقل الغاز هي نقطة الالتقاء بين النظام العالمي القديم وذلك الذي لا يزال الصراع دائراً بشأن تشكله.
من ضمن الأهداف الأخرى وغير المعلنة لواشنطن، والتي أرادت أن تفرضها من خلال المشروع آنف الذكر، تأتي محاولة فرض تطبيع صلب بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي، كأحد أبرز التأثيرات السلبية على الصعيد المحلي. فعلى قاعدة متينة، وضعت الولايات المتحدة مستقبل شرق أوسط ما زالت تحلم به منذ عقود. وفي ظل تزعزع اتفاقيات التطبيع بين بعض الدول العربية والاحتلال، كان لا بد من تحقيق نقلة نوعية في هذه القضية. وهنا أتت الحاجة إلى تطبيع السعودية كإحدى الدول المؤثرة في العالم العربي.
وليست المحاولة لتطبيع العلاقات بين السعودية والاحتلال خارج سياق مشاريع المواصلات، إذ إن نجاح مشروع الممر، في حال المضي فيه، سيثبت العلاقات الاقتصادية بين السعودية و"إسرائيل"، وستبنى للعلاقة على مدى استراتيجي طويل، على عكس العلاقات الاقتصادية المهتزّة، والتي ولدت نتيجة الاتفاقات الإبراهيمية.
في سياق متصل، تجدر الإشارة إلى أن مشروع الممر الاقتصادي سيؤثر في إيرادات قناة السويس، وبالتالي سيشهد الدور المصري تراجعاً حادّاً. ومن هنا تعطى السعودية، بعد التطبيع وتشييد الممر، الدور القيادي في المنطقة. وبعد كل ذلك، تكون واشنطن حققت نجاحاً في جذب السعودية التام إلى المحور الغربي، وخصوصاً بعد مرورها في مرحلة تأرجح بين المحور الغربي والمحور الشرقي. وعندها يعود "الوعي" إلى السعودية، في نظر أميركا، في مجال إنتاج النفط، وهو عامل استطاعت السعودية أن تضغط على أميركا باستخدامه في أوقات محددة. بعد ذلك تتنفس الولايات المتحدة الصعداء في موضوع النفط، وخصوصاً انه كان سيسهل نقله عبر المشروع الذي كانت تخططه.
في ظل كل تلك العناصر التي تندرج ضمن عنوان رئيس، هو خطط المواصلات، جاءت عملية طوفان الأقصى لتثبت دوراً، ليس للمقاومة الفلسطينية فقط، بل لكل فلسطين في تلك التحولات العالمية. فعلى صعيد الحاجة إلى استحداث ممرات تؤمن حاجات الغرب، وخصوصاً أميركا، لإبقاء العالم تحت سيطرة الغرب، بات من الصعب المضي فيه نظراً إلى توقف المشروع بسبب عدم رغبة الدول في الاستثمار في منطقة عادت إليها النزاعات. أما على صعيد التطبيع، فيمكن التأكيد أن ذلك المسار توقف، على الأقل إلى حين عودة الهدوء إلى المنطقة.