أبو عاقلة.. نجمة القدس

شيرين أبو عاقلة أسطورة فلسطينية استطاعت إيصال الصوت بحنجرة وطنية، وحالة إنسانية اختارت الاهتمام بوالديها حتى وفاتهما. لم تفكر يوماً في دخول القفص الزوجي، واختارت أن تكون قريبة من الموت، لأن فلسطين تستحق أن نسقيها بدمائنا.

  • أبو عاقلة.. نجمة القدس
    أبو عاقلة.. نجمة القدس

عند الساعة 6 صباحاً، كانت آخر رسالة لها تقول فيها لمكتب الجزيرة: "قوات الاحتلال تقتحم جنين وتحاصر منزلاً... في طريقي إلى هناك. أوافيكم بخبرٍ عند اتضاح الصورة"، لكن، رحلت الصحافية شيرين أبو عاقلة من دون أن تتضح الصورة، لتصبح هي نفسها خبراً عاجلاً.

تقول الراحلة أبو عاقلة، في مقابلة لها، إن الاحتلال الإسرائيلي كان يتهمها دوماً بتصوير مناطق أمنية، فكانت تشعر بأن الاحتلال والمستوطنين المسلحين يستهدفونها، لأنها منحازة إلى القضية الفلسطينية في تغطية اقتحامات العدو وجرائمه بحق الفلسطينيين بصورة واضحة وبرسالة وطنية.

أزعجتهم الحقيقة، فأرادوا اغتيال صوت شيرين بدم بارد، وبأسلوب بشع، بعدما منع سيارات الإسعاف نقلها. وليستكمل جريمته بوقاحة، قام باقتحام منزل الشهيدة أبو عاقلة ليفرّق الحشود المتضامنة، ويُسكت الأناشيد الثورية، فتصدى الفلسطينيون لحقارة العدو وحقده.

شهد الاحتلال إرباكاً سياسياً وعسكرياً بإصدار بياناته، محاولاً الاختباء وراء الرواية الحقيقية، تارة يصرّح بأن الصحافية أبو عاقلة كانت بين فلسطينيين مسلحين، ليعود ويصحّح سقطته بالقول إن اشتباكاً مسلحاً جرى بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال، ولكن تبقى الرواية الفلسطينية المكتملة الأركان هي الأصدق والأقرب، وهي أن رصاصة العدو كانت جاهزة ومتجهة نحو أي عدسة فلسطينية، لإرهاب الصحافة وإسكات صوت الحرية، كما قالت الراحلة شيرين أبو عاقلة: "ليس سهلاً... ربما أن أغير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال هذا الصوت إلى العالم". غاب صوتها، وصار خبرها عالمياً.

مَن يتجرأ على سَوقِ الاحتلال الإسرائيلي إلى المحاسبة، لا نريد من المنظمات الحقوقية أن تقف عند إصدار بيان استنكاري من هنا وهناك، بل نحن بحاجة إلى تحرّك سريع إلى المحاكم الجنائية لردع وحشية الاحتلال وجرائمه بحق الصحافيين، إذ تعوّد العدو على خطف الصورة وكتم الصوت، من رئيس تحرير مجلة "الهدف" غسان كنفاني الذي اغتاله الموساد بتفجير سيارته في بيروت في العام 1972، إلى المصور في تلفزيون "فلسطين" أمجد العلامي إثر إصابته في الخليل في العام 002، بعيار ناري أطلقه جنود الاحتلال عليه، مروراً بمساعد المصور في التلفزيون الجزائري باسل فرج، الذي استشهد في العام 2009 في غزة، إثر قصف طائرة حربية لبرج سكني حيث كان موجوداً.

الصحافة الغربية نفسها لم تسلم من حماقة رصاصات قوات الاحتلال؛ ففي العام 2003، أطلق العدو النار على جيمس هنري، مالك شركة للإنتاج الإعلامي، أثناء تصويره فيلماً وثائقياً في رفح. وبين العامين 2000-2022، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 46 صحافياً فلسطينياً. تعددت الجنسيات والقاتل واحد، وهو ما زال يسرح ويمرح. وفي كل مرة، يُفلت من العقاب والحساب. 

ابنة القدس و"أيقونة الصحافة الفلسطينية"، التي اختارت مهنة المتاعب لكي تكون قريبة من الإنسان وتشاركه معاناته وتنقل أنين صوت الشعب، تركت اليوم أدراج القدس؛ المكان الذي كان عشق شيرين وقهر قوات الاحتلال. عادت إليه محمولة على الأكف، متوّجةً بوسام نجمة القدس، وسط أطول جنازة في التاريخ الفلسطيني المعاصر، إذ كان تشييعاً جماهيرياً وسياسياً غير مسبوق في كل القرى والمدن. لقد كانت رصاصة واحدة أوجعت قلوب كل مَن عرفها أو شاهدها عبر شاشة التلفاز.

إنها أسطورة فلسطينية استطاعت إيصال الصوت بحنجرة وطنية، وحالة إنسانية اختارت الاهتمام بوالديها حتى وفاتهما. لم تفكر يوماً في دخول القفص الزوجي، واختارت أن تكون قريبة من الموت، لأن فلسطين تستحق أن نسقيها بدمائنا.

"لن أنسى حجم الدمار. كنا نحمل الكاميرات ونتنقل عبر الحواجز. كنا نبيت في المستشفيات أو عند أناس لم نعرفهم. كنا نصر على مواصلة العمل". لم نعد نسمع بعد اليوم صوتها: "كان معكم شيرين أبو عاقلة.. القدس المحتلة".