ما وراء فقاعة تقنية "NFT".. اقتصاد المستقبل أو موضة غريبة عابرة؟!
ما هي رموز الـ"NFTs"؟ ولماذا ينفق الأشخاص الكثير من الأموال للحصول عليها؟ هل يمكن أن يكون ذلك لمحة عما سيبدو عليه المستقبل أو أننا نشهد صنع واحدة من أكبر الفقاعات في كلِّ العصور؟
تطفو على السّطح استثمارات رقميّة جديدة بمئات الآلاف من الدولارات، وربما أكثر، في زمن بات الجميع يبحث عن فرص واسعة لجمع ثروات ضخمة خلال زمن قياسي، ومن دون مجهود يُذكر. وقد استطاع فيروس كورونا ومتحوّراته المتتابعة خلق البيئة المناسبة لاحتضان هذا النوع من المضاربات في سوق الأموال الرقمية وبلورته، في ظلِّ تردّي الأوضاع الاقتصاديّة وغياب فرص العمل الحقيقية وإفلاس الكثير من الشركات، نتيجة الإغلاقات المتكررة حول العالم وأسباب أخرى.
تميل استثمارات "NFTs" (الرموز غير القابلة للاستبدال) هذه الأيام إلى احتلال عناوين الأخبار، نظراً إلى الأعداد الكبيرة المرتبطة بمبيعاتها، والمتعلّقة ربما بموجة الملل التي تضرب مشاهير العالم، وتدفعهم إلى إنفاق الآلاف ومئات الآلاف وملايين الدولارات مقابل شراء قرود رقمية، فنجد الفنان العالمي جاستن بيبر يشتري قرد الملل ذا الرمز #3001 مقابل 1.3 مليون دولار أميركي، وقبله مغني الراب "إمينيم"، الذي أنفق 462 ألف دولار لشراء القرد ذي الرمز #9055، وأيضاً لاعب كرة القدم الشهير نيمار، الذي أنفق مليون دولار لشراء اثنين من قرود الملل، واللذين يحملان رمزي #6633 و#5269.
ما هي رموز الـ"NFTs"؟ ولماذا ينفق الأشخاص الكثير من الأموال للحصول عليها؟ هل يمكن أن يكون ذلك لمحة عما سيبدو عليه المستقبل أو أننا نشهد صنع واحدة من أكبر الفقاعات في كلِّ العصور؟
تقنية غريبة
الـ"NFT" هي رمز يمكن تداوله، ولكنّه غير قابل للاستبدال. كانت هذه الرموز موجودة منذ العام 2012، وانفجرت خلال العام 2020، إذ نما السوق بنسبة 229%، لتصل قيمته إلى 250 مليون دولار. وفي شباط/فبراير 2021، تم تداول المزيد من "NFTs" خلال 24 ساعة مقارنة بالعام 2020 كله.
تعدّ هذه الرموز شهادة رقمية فريدة مسجّلة في "بلوك تشين"، وتُستخدم لتسجيل ملكية أحد الأصول، مثل عمل فني أو تحصيل ما، ولا يستطيع أي شخص تزويرها أو العبث بها أو تغييرها، بصرف النظر عن بياناتها. هذا يعني أنه يمكن استخدامها كوسيلة إثبات خادعة نظرياً لخلق الندرة (وبالتالي القيمة) لقطعة غير قابلة للتكرار من المعلومات الرقمية، ويمكن أن تكون المعلومات التي تمثّلها قطعة فنية رقمية، أو موسيقى، أو قطعة ملابس، أو عنصراً ما في لعبة، أو مفاتيح منزل واقع افتراضي. ومن المحتمل أن تكون أيّ شيء قد يرغب شخص ما في أن يكون فريداً.
يعود مفهوم هذه التقنية إلى العام 2012، عندما اقترح الرئيس التنفيذي لشركة "eToro"، يوني أسيا، عملة "البيتكوين" الملونة، وهي عملة مدمجة مع رمز يربطها بأصول العالم الحقيقي. لذا، اعتبرت عملة "البيتكوين" الملونة مقدّمة لـ"NFTs". في العام 2014، توصّلت الشركة نفسها إلى فكرة "METACO" لتوفير البنية التحتية التي من شأنها تسهيل الترميز. عندها، أصبحت الشركة واحدة من أولى الشركات التي تروج لـ"البيتكوين" الملون.
لسوء الحظ، نظراً إلى أنَّ الغرض من "بيتكوين" كان استخدامها كعملة بديلة فحسب، فإنَّ "البيتكوين" الملوّن كان له العديد من القيود. مثال على ذلك، يمكن إبطال الرموز المميزة الصالحة في مرحلة لاحقة، كحالة الانقسام.
في العام 2018، أصبحت "NFTs" ممكنة تقنياً، عندما أنشأ ويليام إنتريكين وديتر شيرلي وجاكوب إيفانز وناستاسيا ساكس بروتوكول "ERC-721" لسلسلة "إيثيريوم بلوك تشين"، وبالتالي تم حل العديد من المشكلات الكامنة في "البيتكوين" الملونة، نظراً إلى أنّ "إيثريوم" هي نظام أساسي متعدّد الأغراض.
على وجه الخصوص، يمكّن بروتوكول "بلوك تشين" من تحديد "NFTs" الفردية، وتتبّع التحركات، ومتابعة الملكية، ويمكّن أيضاً من ربط "NFTs" بالعقود الذكية، بحيث يمكن للملكية أن تنتقل تلقائياً عند الوفاء بالالتزام.
إمكانيات غير مستغلّة
كان لملك العملة المشفرة "البيتكوين" بداية تقريبية لهذا العام، إذ انخفض بنسبة 6.9% تقريباً منذ بداية العام 2022، ولكن سوق العملة الرقمية غير القابلة للاستبدال أو "NFT"، على عكس حال "البيتكوين"، ازدهرت مع المستثمرين والمؤسسات والشركات والمشاهير الذين بدأوا بمراكمة الرموز الرقمية، كتلك التي تتجه قيمتها باطراد إلى الأعلى.
حتى الآن، ركَّز معظم التغطية السائدة لـ"NFTs" على الأمور التي يعتبرها البعض سخيفة، مثل شراء قرود الملل، ولكن بخلاف "الميمات" أو صور السيلفي أو مقاطع الفيديو الحية للفنّ، فإنّ "NFTs" لها استخدامات عملية ذات آثار بعيدة المدى.
ما زال مشروع "metaverse" الذي أعلنه مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة "ميتا" (فيسبوك سابقاً)، حديث الدراسات والتحليلات لكشف تفاصيله المبهمة. وربما ستؤدي "NFTs" عدداً من الأدوار المهمة في العوالم الافتراضية التي ستشكّل "metaverse". أولاً، تمكّن العناصر الرقمية من أن تكون فريدة من نوعها، ونحن نعلم جميعاً أن الأشخاص في العالم الحقيقي يحبون جمع الأشياء النادرة والفريدة من نوعها وعرضها، ولا يوجد سبب للاعتقاد بأنَّ العالم الافتراضي سيكون مختلفاً، إذ باعت "Nike" مؤخراً 600 زوج من الأحذية على أنّها "NFTs". فكِّر في الأمر على أنه القدرة على تجهيز شخصيتك في لعبة فيديو في ملابس فريدة من نوعها لا يمكن لأيِّ شخص آخر امتلاكها.
بحسب التقديرات، بحلول العام 2030، قد يكون هناك أكثر من 125 مليار جهاز متّصل في العالم. هذه الشبكة الضخمة من أجهزة الكمبيوتر والأجهزة القابلة للارتداء والآلات الصناعية والعديد من العناصر الأخرى هي ما نعنيه عندما نتحدَّث عن إنترنت الأشياء "IoT".
ويعتقد الكثيرون أنّ لدى "NFTs" دوراً مهماً تؤديه، فمن المحتمل أن تكون مفيدة، لأنها تسمح للأجهزة بمصادقة البيانات الواردة من الأجهزة الأخرى. في الأساس، هذا هو المكافئ الرقمي لمدير المستودع الذي يقوم بفحص الأعمال الورقية عند تسليم حمولة حاوية من المخزون.
يستخدم متخصّصو الأمن السيبراني "WISeKey" أشباه الموصلات المزروعة في البنية التحتية للشبكة المادية، والتي تقوم تلقائياً بصنع "NFTs" من أجل التصديق على أنَّ الجهاز جدير بالثقة. وهناك مبادرة أخرى تبحث في ربط "NFTs" بأصول البنية التحتية للمدينة، مثل مصابيح الشوارع وملاجئ الحافلات وإشارات المرور. هنا، ستمكّن الرموز المميزة من إتاحة البيانات الدقيقة من هذه الأجهزة للتسويق من قبل الشركات التي تتطلَّع إلى تطوير خدمات جديدة، مثل شركات الاتصالات.
علاقة مهمّة
يدافع الخبراء عن تقنيّة "NFT"، ويشيرون إلى دورها في الرعاية الصحّية، إذ إنّها ستمكّن الأفراد يوماً ما من التحكّم في بياناتهم الصحّية، وربما جني الأموال من ذلك، إذ يتم شراء بيانات الرعاية الصحية الشخصية وبيعها طوال الوقت.
اليوم، أصبح إنشاء البيانات الصحية وجمعها أسهل من أيِّ وقت مضى، وذلك بفضل توفّر الأجهزة القابلة للارتداء والشاشات وأجهزة الاستشعار، حتى المعلومات الجينومية يمكن الوصول إليها بكلفة زهيدة، وذلك بفضل الخدمات التي تسمح للأفراد بتحليل معلومات الحمض النووي الخاصة بهم.
ليس لدى الكثير منا فكرة عن مكان انتهاء المعلومات التي يتم إنشاؤها في كلِّ مرة نستخدم فيها جهازاً أو نتفاعل مع خدمة. في الواقع، من المحتمل أن يشقّ الكثير من هذه المعلومات طريقه في النهاية إلى السوق السوداء، إذ يُقال إنَّ سجلّ الرعاية الصحية الفردية يبلغ حوالى 250 دولاراً.
تسمح "NFTs" بتمييز المعلومات بالبيانات، ما يعني إمكانية تتبّعها متى تمَّ تمريرها. ولا يعني هذا فقط مراقبة أفضل للمكان الذي تنتهي فيه معلوماتنا، ولكننا في يوم من الأيام، يمكننا الاستفادة من إمكانيات العقد الذكية لتقنية "NFT" و"بلوك تشين" لضمان دفع الإتاوات المستحقة علينا في كل مرة يتم فيها تمرير بياناتنا.
مستقبل "NFT"
بالعودة إلى تداول "NFT" الجامح، من الواضح أنَّ الوقت لا يزال مبكراً؛ فحتى الآن، التجارة في "NFTs" تخمينية إلى حد كبير، ما يعني أن هناك الكثير من الأشياء المجهولة حتى الآن. لنفترض أنّك تريد إعادة بيع "NFT" الخاص بك من "meme"، هل ستجد مشترياً يدفع لك ما يكفي لاسترداد أموالك على الأقل؟
رغم جميع الأقاويل بأنَّ هذه التقنية مجرد بدعة ستزول قريباً، فإنَّ التقديرات تشير إلى أنَّ هناك حالياً حوالى 78 تريليون دولار من الأصول غير المصرفية على مستوى العالم، وتعدّ "NFTs" ثورة رائعة يمكن أن تحل محل العديد من القوانين والممارسات بطريقة أبسط وأكثر شفافية لفتح هذه الأصول والتفاعل معها. لذا، إنَّ السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت "NFTs" موجودة لتبقى، بل هل ستتخذ البنوك خطوات للتكيف أو ستستمرّ بالاعتقاد بأن العالم لا يمكن أن يمضي قدماً من دونها؟