وجوه متعبة في دمشق.. نار الأسعار تكوي جيوب السوريين في رمضان
شهر رمضان هذا العام في سوريا مختلف عن السنوات السابقة، فارتفاع الأسعار بشكلٍ جنوني وتدني القدرة الشرائية زاد من معاناة السوريين وساهم في تدهور أوضاعهم المعيشية.
أسواق مُنهكة ووجوه مُتعبة، هكذا تبدو العاصمة السورية دمشق خلال شهر رمضان المبارك، فالبهجة بحلول الشهر الكريم لا تخلو من المعاناة والحسرة نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة التي أرخت بثقلها على السوريين بكل شرائحهم، ليكون رمضان هذا العام مختلفاً عما عاشه السوريون في السنوات الماضية.
الأزمة الاقتصادية التي تعيشها سوريا في الوقت الحالي أدت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية في الأسواق إلى مستويات قياسية، وأمام هذا الواقع يحاول الدمشقيون التأقلم مع الظروف المعيشية، فتراهم يختصرون من "المونة الرمضانية" ويشترون حاجياتهم الأساسية فقط، ويتخلون عن العديد من الطقوس التي كانت ترافق شهر رمضان.
اختفاء الطقوس الرمضانية
هذا العام، تخلّى معظم الدمشقيين عن "تكريزة رمضان"، وهي طقس اجتماعي متعارف عليه منذ سنوات طويلة، حيث يعمد ربُّ الأسرة إلى دعوة عائلته لنزهة في البساتين على أطراف دمشق، أو الذهاب إلى أحد المطاعم داخل العاصمة خلال الأيام الأخيرة من شهر شعبان، لتهيئة العائلة لاستقبال الشهر الكريم، لكن ونتيجة الأوضاع المعيشية لم تعد "التكريزة" حاضرة في حسابات الدمشقيين.
فاضل التكريتي (52 عاماً) يعمل في مجال البناء، يقول للميادين نت: "غابت التكريزة منذ سنوات عن طقوس شهر رمضان، ولم تعد موجودة إلا لدى فئة قليلة تملك القدرة المادية، كما أن الظروف المعيشية الصعبة تقلل الخيارات المُتاحة أمامنا، لذلك فإن تأمين كميات محدودة من المواد الغذائية والاستهلاكية لشهر رمضان أكثر أهمية من التكريزة".
"التكريزة" ليست وحدها مَا اختفتى مِن حسابات السوريين، فارتفاع الأسعار وتدني القدرة الشرائية دفع العائلات إلى التخلّي عن "مونة رمضان"، ومن المتعارف عليه في الطقوس الدمشقية التي تسبق الشهر الكريم أن يبدأ الناس بشراء كميات من اللحوم والمواد الغذائية والأجبان، حيث يتسابق السوريون لشراء كل ما يحتاجونه من المواد الغذائية التي ترتبط بالأطباق الرمضانية التقليدية، لكن الظروف المعيشية دفعت الأهالي للاستغناء عن "المونة" والتوجه لشراء الأساسيات بكميات قليلة تلبي حاجاتهم اليومية فقط.
شرائح واسعة من السوريين غير قادرة على توفير المواد الغذائية الأساسية لموائد إفطارها، في ظل الارتفاع المستمر وغير المسبوق لأسعار الأغذية والمواد الاستهلاكية تزامناً مع حلول الشهر الكريم، وهو ما يعني تقليص موائد الإفطار إلى الحدود الدنيا، بعد أن كانت تزخم بأنواع مختلفة من الأطعمة والمشروبات الرمضانية.
وشهدت أسعار معظم السلع الغذائية في الأسواق السورية ارتفاعاً كبيراً قبيل حلول شهر رمضان، حيث وصل سعر كيلو الأرز إلى 20 ألف ليرة (1.3$)، وسعر كيلو السمنة النباتية 35 ألف ليرة (2.3$)، وسعر كيلو السكر 15 ألف ليرة (1$)، أما كيلو لحم الغنم فوصل إلى 200 ألف ليرة (13$)، كما طال ارتفاع الأسعار، الخضار والفواكه، حيث وصل سعر كيلو البطاطا إلى 9000 ليرة بعد أن كان العام الماضي 4000 ليرة، وسعر كيلو البندورة سجّل 8500 ليرة بعد أن كان العام الماضي 3500 ليرة، وسعر كيلو الموز 16000 ليرة، بعد أن كان العام الماضي 9000 ليرة، وهذا الأمر ينطبق على أسعار الحبوب، التي ارتفعت بنحو الضعف مقارنة مع رمضان الماضي.
الأمر نفسه ينطبق على "زينة رمضان" التي باتت من "الطقوس المنسيّة" لدى السوريين نظراً لارتفاع أسعارها، ولوجود أولويات أكثر أهمية مرتبطة بحياتهم اليومية، حيث بلغ سعر "حبل الزينة المضاء" نحو 75 ألف ليرة (5$)، بينما يصل سعر هلال رمضان المضاء إلى 200 ألف ليرة (13$).
ومن الطقوس التي بدأت تختفي من الأجواء الرمضانية "الطبخة البيضاء"، حيث اعتادت العائلات على إعداد طبق يحوي على اللبن في إفطار اليوم الأول من شهر رمضان، مثل: "الشاكرية" أو "الشيشبرك" أو "الكبة اللبنية" أو "شيخ المحشي"، لكن ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء التي تعد مكوناً أساسياً لتلك الأطباق جعل من الصعب على شريحة واسعة من السوريين إعداد "الطبخة البيضاء"، وبالتالي أصبح التخلي عن هذا الطقس الرمضاني أمراً حتمياً.
"اليوم ما عاد في شي أبيض، وحياتنا عم تصير شوي شوي سودا"، الأكلة البيضاء تكلّف أكثر من 300 ألف ليرة؛ الأسعار في الأسواق تفوق القدرة على استيعابها؛ نحن اليوم نبحث عن الأرخص فقط ولا نهتم بالجودة أو النوعية، وحتى الأرخص نشتريه بكميات قليلة، أما اللحوم الحمراء والحلويات فهي ملغية من حساباتنا بشكلٍ كامل"، تقول رائدة دياب للميادين نت.
وتؤكد دياب التي تعمل في ورشة خياطة أن راتبها وراتب زوجها لا يكفي لشراء كامل احتياجات أسرتها خلال شهر رمضان، لكنها تحاول التأقلم مع الوضع الحالي من خلال الاستغناء عن التمر والمشروبات الرمضانية واللحم الأحمر، لكنها في المقابل تعمد إلى شراء لحم الدجاج بكميات قليلة وإعداد مشروبات منزلية، على أمل أن يساعدها ذلك بتوفير المصاريف خلال شهر رمضان.
رحلة البحث عن "الأرخص"
لا يعاني السوريون من الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية فقط، بل في التفاوت الكبير بالأسعار بين سوق وآخر، وبين محل وآخر أيضاً، لذلك بات التسوّق مهمة شاقّة لأرباب الأسر الذين يتنقّلون من مكان إلى مكان بحثاً عن السعر الأرخص، ولو كلّفهم الأمر جهداً أكبر ووقتاً أطول.
في سوق باب سريجة وسط العاصمة دمشق، تبحث أم أيمن (52 عاماً) عن أرخص محل لبيع التمور من أجل شراء كيلو تمر واحد فقط؛ تقول للميادين نت: "هذا المحل الرابع الذي أسأله عن سعر كيلو التمر، وكل واحد منهم أعطاني سعراً مختلفاً عن الآخر؛ لقد أصبحت مهمة البحث عن السعر الأرخص شاقّة للغاية، برغم أنني لا أريد شراء أكثر من كيلو غرام واحد فقط، لأن الأولوية اليوم للطعام فقط، أما التمر فأصبح من الرفاهيات".
وتضيف أم أيمن بحرقة وغصّة: "قبل الحرب كنا نشتري كميات كبيرة من التمر مع مونة رمضان، والتي تضم مختلف أنواع المواد الغذائية والأجبان والألبان واللحوم، فلا ننقطع من شيء خلال الشهر الكريم، أما اليوم فنحن عاجزون عن تأمين مكونات وجبة إفطار كاملة ليوم واحد، لأن الأسعار باتت تفوق قدرتنا الشرائية بكثير، والحل الوحيد المتبقي هو التأقلم مع الوضع الحالي، عبر اختصار ما يمكن اختصاره من لحوم وحلويات ومشروبات".
وشهدت أسواق العاصمة دمشق تفاوتاً كبيراً في أسعار وأنواع التمر، حيث سجلت الأنواع ذات الجودة المنخفضة ما بين 20 إلى 40 ألف ليرة سورية، أما الأنواع ذات الجودة المتوسطة فتصل إلى حدود 80 ألف ليرة، بينما تتجاوز قيمة التمور ذات الجودة المرتفعة حاجز المئة ألف ليرة (6.3$).
من المؤكد أن شهر رمضان هذا العام مختلف عن السنوات السابقة، فارتفاع الأسعار بشكلٍ جنوني وتدني القدرة الشرائية زاد من معاناة السوريين وساهم في تدهور أوضاعهم المعيشية، لكنهم بالمقابل يصّرون على ممارسة الطقوس الرمضانية التي اعتادوا عليها سابقاً، ولو كانت بطريقة تتلاءم مع الظروف التي يعيشونها.