هستيريا "الشفاء" الدامية.. حرب الجنود على الخوف والـ"لا" الفدائية
يستمر الاحتلال في جرائمه في مجمع الشفاء الطبي، ويواصل إعدام الأطباء لأنهم يرفضون أن يتركوا المرضى، و"الطلب إلى الجرحى، مبتوري الأطراف، وإلي عايشين على الأجهزة، يطلعوا من المبنى وإلّا رح ينسفوا المبنى كله على رؤوسهم"، بالإضافة إلى الإعدام إحراقاً.
تحجب ستائر النار والدخان تفاصيل المذبحة الجديدة المستمرة منذ سبعة أيام في مجمع الشفاء الطبي، غربي مدينة غزة. الشهاداتُ التي تخرج من هناك شحيحة جداً. لا معلومات دقيقة عن عدد الشهداء والمعتقلين، سوى ما يتفاخر جيش الاحتلال في إعلان ارتكابه يومياً من فظائع، لذا، كان لا بد من الوصول إلى أقرب نقطة من المنطقة التي حوّلتها الطائرات الحربية وقذائف الدبابات إلى ثقب أسود، يبتلع يومياً مزيداً من المباني وسكانها.
عند آخر خطوط النار، قرب مفترق السرايا وسط المدينة، انتظرتُ، رفقة عدد من الأهالي والصحافيين ساعات، آملين أن يشقّ أحد الناجين غبار السماء، ويعود حاملاً معه آخر الأخبار من هناك. تشبه الرتابة التي تثيرها مراقبة منطقة مجمع الشفاء، على بعد كيلومتر ونصف كيلومتر عنها، مشاهدة مقطع "ريل" عبر فيسبوك، تعمّد صانعه طمس نهاية له. لذا، ستكرر حضور المشهد ذاته عشرات المرات، من دون أن تدرك أن لقطة واحدة مكررة مدتها بضعة ثوانٍ فقط. هكذا، مضت ثلاث ساعات من المشهد نفسه. تلقي الطائرات الحربية، في كل دقيقة، أطناناً من المتفجرات، ليس على المباني المحيطة بالمجمع الطبي فقط، وإنما أيضاً في دائرة نار يتجاوز قطرها في المناطق الجنوبية والشمالية من المستشفى، هامش كيلومترين، بينما تخيم سحابة من الدخان الأسود الكثيف فوق حي الرمال، يسحبها هواء البحر الغربي إلى الأحياء الشرقية من المدينة.
يراقب من نزح إلى حي الشجاعية شرقاً سحابة الغبار وهو يشتمّ منها رائحة شقته المحترقة في حيَّي الرمال والنصر. ووفق النسق الممل ذاته، تدكّ المدفعية طوال الوقت شوارع ومباني في دائرة النار ذاتها. يمر الوقت، ونحن ننتظر ناجياً يخبرنا بهول ما يحدث. يقول الأهالي إن مجموعة من النساء والأطفال، تستطيع مغافلة جيش الاحتلال، وتخالف تعليمات النزوح إلى الجنوب، وتقطع خط النار الممتد من الشفاء حتى مفترق السرايا، وصولاً إلى الأحياء الشرقية من المدينة.
بدأ قرص الشمس، الذي أمضى نهاره غارقاً بين سحب الدخان، يأخذ طريقه للاغتسال بمياه بحر المدينة. ظهرت أم حامد. سيدة في عمر الخمسين، ذات ملامح يكسوها الرعب، ولباس ملطخ بالوحل وآثار الدماء، تجمّع حولها الأهالي، كأنها أمٌ يتنافسون في بِرّها. وبينما حاول الزملاء الصحافيون استنطاقها، أومأت بيدها اليسرى مشيرةً إلى أنها لن تستطيع الكلام. وحتى وصولنا إلى عتبة أحد البيوت في حي الدرج، مشى موكب الحزن في صمت لم تخرقه سوى رتابة القصف المستمر. جلست السيدة، التي أخبرتنا لتوها باسمها واسم عائلتها. وبينما بدأ الشبان رحلة البحث عن عائلتها، بدأت أخريات تأمين ثياب نظيفة لها، وآخرون شرعوا في تحضير ما تيسّر من طعام، سيكون وجبتها الأولى منذ خمسة أيام من الصيام المستمر.
حبستُ فيض استفساراتي وأسئلتي احتراماً لرهبة الموقف، قبل أن تبادر إلى حديث يشبه الهذيان: "جثث الشهداء في كل مكان. الجنود بيعطوا الشباب الأمان، وبيصيروا يتسلوا عليهم بالقنص. كنا في قسم الكلى، قنصوا شاب برأسه، وغرقنا كلنا بدمّو". وحينما صمتت، بدأت مهمة أتعس إنسان في هذا العالم المبادرة إلى سؤالها: "كيف طلعتِ يا خالة؟"، سألتها، لتجيب: "طلبوا من النساء تطلع من المبنى، طلعنا. تركونا على الأرض بين مئات الجثث والأشلاء والجثامين إلي داستها الجرافات، سبع ساعات، بعدها قالولنا يلا على الجنوب. اتفقت أنا وخمس نسوان نروح غزة. سلكنا الطريق الرسمية من حي الرمال، لحقتنا طيارة كواد كابتر، أطلقت النار علينا، وأطلقوا قذيفة. جريت وما بعرف مصيرهن، أكيد استشهدن". قالت لنا ذلك، وأطبقت في صمت رهيب.
من الشفاء أيضاً، استطاع الشاب الذي لم يتجاوز عشرين عاماً خوض مغامرة قاتلة، من أجل الوصول إلى حي التفاح. يقول في شهادته: "طلبوا من الجرحى مبتوري الأطراف وإلي عايشين على الأجهزة، يطلعوا من المبنى وإلّا رح ينسفوا المبنى كله على رؤوسهم. من خمسة أيام ما أكلنا ولا شربنا قطرة مية. الأطباء صاروا يوزعوا علينا المحاليل الطبية، شربناها حتى ما نموت من العطش. أعدموا أطباء لأنهم رفضوا يتركوا المرضى. الشوارع المحيطة بالشفاء فيها مئات الشهداء، محروقين في بيوتهم، أو مقتولين على الأبواب".