هجرة عكسية من أوروبا.. أزمات في الهوية والإسلاموفوبيا تلاحق قاطني القارة العجوز
يعيش العديد من المغتربين في أوروبا صراعاً بين البقاء في البلاد التي هاجروا إليها بدافع البحث عن حياة كريمة، وبين العودة إلى جذورهم وثقافتهم التي يجدونها في بلاد الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
"ما بلومن الشمس هيي لي بتجيب البهجة"، هكذا علّق المؤثّر السوريّ زاهر داس في مقطع له في "تيك توك"، ليصف "وجوه الألمان الباردة". يعيش داس في ألمانيا منذ تسعة أعوام وحصل على جنسيتها وأتقن لغتها، ولكنه قرّر مؤخراً تركها والانتقال إلى الإمارات بحثاً عن فرصة عمل أفضل وللهروب من الضرائب المرتفعة في البلاد.
يعيش العديد من المغتربين في أوروبا صراعاً بين البقاء في البلاد التي هاجروا إليها بدافع البحث عن حياة كريمة، وبين العودة إلى جذورهم وثقافتهم التي يجدونها في بلاد الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
البحث عن هوية ضائعة
تشهد فرنسا زيادة ملحوظة في ظاهرة الهجرة المعاكسة للمسلمين، وتعزو بعض التقارير هذا التصاعد إلى الإسلاموفوبيا المنتشرة في المجتمع. تعتبر الإسلاموفوبيا ظاهرة تتمثّل في التحامل والتحيّز ضد المسلمين والإسلام، ويؤكد الباحث الاستراتيجي اللبناني فادي الأحمر، الذي انتقل إلى مدينة مارسيليا الفرنسية مؤخراً، أنه "ازداد تأثيرها في ظلّ العمليات الإرهابية التي شهدتها بلاد العالم كافة في السنوات الأخيرة". وأكد أنّ هناك مسؤولية تقع على عاتق المسلمين أنفسِهم في الانخراط في هذه المجتمعات العلمانية ذات الخلفية المسيحية. فعلى الرغم من تقصير الدول في إدماجهم، كما أقرّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه الأخير، يبقى على المسلم أن يكون أكثر مرونةً في تطبيق ثقافته، كي لا يوسمَ "كآخر" في البلاد.
في هذا السياق، وفي ظلّ تصاعد اليمين المتطرف في الدول الأوروبية، ازداد انتشار خطاب الكراهية ضد العرب والمسلمين المهاجرين، وقد ترتّبت على ذلك تغييرات في عدة مجالات، بما في ذلك العمل والتعليم. فقد شهدنا مؤخّراً التعديلات على قوانين الهجرة الأوروبية التي أثارت جدلاً واسع النطاق.
ينتقد فادي الأحمر هذه السياسات ليؤكد حضور المهاجرين حتى في الوسط السياسي، "فوزيرة التربية ووزيرة الثقافة وكذلك رئيس الوزراء الجديد غابريال آتال، وهو يهوديّ أصله تونسي واسم عائلته عتّال"، وهذا يأخذنا برأيه إلى الاحتمالية التاريخية لما يحمله الاسم من معنى. وبحسب آخر دراسة لمركز "بيو" الأميركي للأبحاث عام 2016، فإن عدد مسلمي أوروبا بلغ نحو 5% من سكانها، وتتوقّع الدراسة ارتفاعاً إلى حدود 14% في عام 2050.
في بلاد المهجر، يواجه الأفراد تحوّلات كثيرة في هويتهم، ويصبح تعريف الذات والانتماء سؤالاً يومياً ملحّاً. الطبيب اللبناني عصام درويش (اسم مستعار) يعيش في فرنسا مع أسرته منذ أكثر من عشرين عاماً، ويشير إلى الصورة المثالية الشائعة للحياة الأوروبية "التي تجعلنا نغلق أعيننا عن القيم التي يخسرها أولادنا في بيئة تعتبر المثلية الجنسية جزءاً من الطبيعة البيولوجية". ويشدّد على أنه في الغربة لا يوجد دعم عائلي، ويبذل مع زوجته جهوداً مضاعفة في التربية.
درويش، الذي ربّى أبناءه على قيم إسلامية واستوحى نمطاً مرناً في التعامل مع الحياة من خلال تنقّله في بلدان أوروبية مختلفة، يقول إنه لن يعارض ابنته عندما تعرّف عن نفسها بأنها فرنسية. على الرغم من عدم الانتماء الفعلي لتلك البلاد، فإنه لن يسمح بحدوث شرخٍ في هويتها وهوية أشقائها. لكنه يؤكد أن عودته إلى لبنان قد اقتربت، فهو يقوم حالياً بترتيب أوراقه الأخيرة. يرى أن كلّ هذه التحديات في الغربة هي ثمن يدفعه من أجل حياة كريمة لم يكن بإمكانهم تحقيقها في بلاد ترزح تحت الأزمات الاقتصادية والسياسية.
وهذه قصّة أبو سامي، نجّارٌ سوريّ (42 عاماً)، تزوّج ابنة قريته قبل أن يلتجئ معها إلى مدينة ليون الفرنسية، ما فعله أنه أقنعها بزيارة أقاربهما في الأردن، ومزّق أوراق عودتهما عند الوصول. ولتبرير ذلك، قال إنه في جلسات الاندماج التي تقوم بها الدولة للمهاجرين الجدد، تعرّفت الزوجة إلى حقوقها "فأصبحت متمرّدة" على حدّ تعبيره، "صارت تعود إلى المنزل متأخّرة بسبب عملها في الفندق، ولن أسمح بذلك". وبرأيه أنها تدمّر أسرتها وأخلاق أولادهما الخمسة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، في ظل الرقمنة، هل أن المجتمعات العربية أو الشرق أوسطية هي فعلاً مقصداً آمناً للمحافظة على "القيم الإسلامية" أو أن الأعراف التي تسيطر فيها ترسم حدود الحرية؟
علمانية التعليم.. دافعٌ واقعيٌّ لتغيير الوجهة؟
تفرض فرنسا منذ عام 2004 قيوداً على ارتداء الرموز الدينية البارزة في المدارس والإدارات العامة. تعود هذه السياسة إلى تاريخ العلمانية في البلاد بعد فصل الكنيسة عن الدولة في عام 1905. وتمّ تبنّي مبدأ العلمانية في نظام التعليم الفرنسي منذ ذلك الحين. وقد تمّ فرض حظر كامل على ارتداء الرموز الدينية، بما في ذلك الحجاب والصليب والقلادات الدينية الأخرى. تهدف هذه القيود إلى منع أي نوع من أشكال التبشير أو الدعوة للدين في الأماكن العامة. ومن الجدير بالذكر أن هذه القيود لا تنطبق على التعليم العالي، حيث لا تشمل هذه السياسة الجامعات.
ملاك فقيه، التي عادت إلى لبنان منذ ما يقارب السنة مع خيبة كبيرة، تقول إنها بعد حصولها على الماجستير في علوم البيولوجيا في مدينة نيس جنوب فرنسا، لم تستطع أن تجد عملاً ولا حتى فرصة تدريب، وذلك بسبب حجابها "المبالغ فيه" بحسب ما قالوا لها.
تؤكّد مروة روماني هذا الكلام، وتتحدث إلى الميادين نت أن جامعات فرنسا لا يحكمها قانون واحد، فممارساتها مرتبطة بالحزب المسيطر. لكن جميعها يرفض اللباس الذي يشي بالتطرّف. فجامعة لورين في مدينة نانسي مثلاً، تميل إدارتها إلى الحزب اليساري مما يجعلها متساهلة في الاختلافات الدينية والجندرية كافة. مروة هي أستاذة مساعدة في كلية الهندسة الجينية، تقول إنها لم تواجه أيّ مشاكل أو عنصرية من قبل محيطها الأكاديمي، بل على العكس "كانوا يحترمون صيامي في رمضان ولا يأكلون أمامي". تؤكد أنها تشارك في المؤتمرات وهي في واجهة الجامعة دائماً، وتضيف: "الحجاب مختفي عني مع إني لابستو".
تتحدث مروة عن ارتباطها العاطفي بفرنسا وتعتبرها بلدها الثاني، وتقول إن فرنسا منحتها الكثير ووجدت فيها من يقدّر جهدها وعقلها. "إن السعي الذاتي هو أكثر ما يصنع مستقبلاً هناك للفتاة المحجبة، وتبقى العنصرية عاملاً بسيطاً في تأثيره". لكنها لن تسمح بنشأة أولادها إلا في ثقافة إسلامية. أما زينب، فتشير إلى أن الغربة هي التي أعادتها إلى إسلامها الداخلي الحقيقي، لأن "مجتمعاتنا المسلمة تتعامل مع العقيدة كأنها من المسلّمات فتغرق في القشور والمظاهر للتعبئة المذهبية والحزبية، بينما في الغربة يكون ترميم الإيمان هاجساً يوميّاً دائم الإلحاح".
التحديات الاقتصادية تعمّق الأزمة
لم تتوقّف أوروبا عن كونها ملاذاً للدول العربية وغيرها، لكن الهجرة إليها تضاءلت كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب توفّر فرص عمل أفضل في دول أخرى كدول الخليج ودول أميركا الشمالية ككندا مثلاً، وفق فادي الأحمر. وبرأيه،، هناك الكثير من دول المغرب العربي الفرنكفوني غيّرت وجهتها إلى كيبيك في كندا. حيث الفرص الأكبر لتأمين المستقبل. وأضاف أن "اقتصادات أوروبا تأثّرت بشكل كبير بعد جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، حيث توجّه اقتصادها نحو الاقتصاد العسكري على حساب تنميتها الداخلية، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا".
والجدير بالذكر أن الهجرة العكسية لم تكن حِكراً على فئة المهاجرين، فبحسب دراسة حديثة أجراها مركز أوبينيون واي، تبيّن أن 50% من الفئات الشابة من أصول فرنسية يفكّرون في الهجرة "بسبب المناخ السياسي والاقتصادي في البلاد"، ويفضّلون أميركا الشمالية وأوروبا ثم أفريقيا كوجهات بديلة.
يُشار إلى أن العديد من الأشخاص ذوي الخبرات والشهادات يواجهون صعوبة في إيجاد فرص عمل مناسبة في فرنسا. وفقاً للإعلامي السوري الذي انتقل حديثاً إلى دبي والذي فضّل عدم ذكر اسمه، تحدّث عن تجربته الصعبة بعد لجوئه السياسي إلى فرنسا، قائلاً: "تسع سنوات بين جائحة كورونا وغسل الأطباق وإجراء مقابلات في قنوات إعلامية باءت بالفشل بسبب مشاكل الانتماء وصعوبات الاندماج المهني في المؤسسات الأوروبية".
علماً أنّ نسبة البطالة في فرنسا ارتفعت إلى 7.4% في عام 2023، وفقاً للإحصاءات الرسمية. وقد سجّل المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الوطنية تراجعاً في معدل التضخم إلى أدنى مستوى له خلال الـ20 شهراً الماضية حتى وصل إلى 4.5% في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. "فزيادة الأسعار بالتزامن مع عدم زيادة الرواتب، إضافة إلى الضرائب العالية يقلّل القدرة الشرائية للفرد".
وفي آخر مؤتمر عقده، أكد الرئيس الفرنسي أن فاتورة الكهرباء ستزيد أيضاً 10% عن العام الماضي. وحول تأثّر رفاهية الفرد، أكّد فادي الأحمر أن متوسط الدخل الفردي في أوروبا هو نحو 40 ألف دولار سنوياً، بينما في أميركا يصل إلى 65 ألف دولار سنوياً.
وفي ظلّ وصول نسبة الولادات إلى أدنى مستوياتها منذ العام 1964، ستكون فرنسا أكثر حاجة لاستقبال المهاجرين. وقد وعد الرئيس الفرنسي كذلك بتخفيف نسبة البطالة والسعي لزيادة فرص العمل. في الوقت عينه، قامت ألمانيا بتسهيل الحصول على الجنسية الألمانية بعد 5 سنوات من الإقامة، بدلاً من ثمانية، كجزء من جهودها للتصدّي لنقص العمالة.