نقص الغذاء والخدمات في الريف اللبناني يعرض أهله لأزمات صعبة
لم يعد بإمكان الكثير من القاطنين في القرى اللبنانية الصمود لأنّهم لا يمتلكون أي متراس للاحتماء به، وصارت حياتهم صعبة جداً خاصة عند مقارنتها بحياة سكان المدينة.
يُقال إنّه عندما تضرب المجاعة بلداً ما، يكون للشخص البدين قدرة أكبر على الصمود من النحيف. وإذا أسقطنا هذا القول على الأزمة التي تضرب لبنان، يمكن تشبيه سكان المدينة بالبُدناء وسكان القرى بالنحفاء الذين لا يملكون أي دهون لتذوب.
في ظلّ غياب الإنماء الريفي، وتعاقب الحكومات والبلديات على إهمال القرى النائية، فرغت الأخيرة من أبنائها الذين نزحوا إلى المدينة، وبقيت قلّة اعتادت على الحياة الصعبة في مناطق جغرافية تنقصها أبسط أشكال الإنماء. ومع اشتداد حدة الأزمة الاقتصادية، لم يعد بإمكان الكثير من القاطنين في القرى الصمود لأنّهم لا يمتلكون أي متراس للاحتماء به. صارت حياتهم صعبة جداً خاصة لدى مقارنتها بحياة سكان المدينة، لكن النزول إلى المدينة في ظل الغلاء المعيشي وأزمة السكن يعني "الانتحار".
كلفة النقل
إذا كانت أزمة النقل وارتفاع كلفة المواصلات تطال جميع اللبنانيين، فإنّ أكبر المتضرّرين هم أبناء القرى الذين يقصدون المدينة لزاماً، سواء لإجراء معاملات إدارية أو لتأمين خدمات صحية واستشفائية وتعليمية، وحتى لشراء مستلزمات العيش الأساسية كالطعام والشراب والدواء والثياب والوقود، وللعمل أيضاً.
تنزل راغدة ملحم، مثلاً، من قرية بلونة في قضاء كسروان إلى عملها في ثانوية رسمية في بيروت يومين في الأسبوع و"بينكسر ضهري في كل مشوار إلى بيروت عندما ينزل مؤشر الوقود بسرعة". لا تزال بلونة تحافظ على الطابع القروي القديم. فعندما يحلّ المساء تقفل المحال وتفرغ الشوارع، و"إذا احتجت لأي شيء عليك أن تبحث عنه في القرى المجاورة، ما يعني أن الحياة في القرى تحتّم امتلاك وسيلة نقل خاصة وامتلاك كلفة تصليحها وتعبئتها بالبنزين في ظل غياب النقل العمومي".
الأمر نفسه ينطبق على قرية علمات في قضاء جبيل، بل يزداد سوءاً. ففي هذه القرية التي تغري السيّاح بمساحاتها الخضراء وغناها الطبيعي يؤسفك فقر أبنائها. بين أشجار السنديان التي تكسو علمات ينتشر عددٌ قليلٌ من العائلات الذين "يعيشون حياة تعيسة وعلى الخبز والزيتون".
فرص العمل في البلدة شبه معدومة. والناس إمّا تعمل في الفلاحة أو "بالتحطيب" أو بنقل الرمل والبحص. لا محال لبيع اللحوم والدجاج هناك، ولا مدرسة أو صيدلية ولا ميكانيكي سيارات ولا حتى محطة وقود. "المسافة بين منزلي وأقرب محطة وقود تبلغ 8 كيلومترات ذهاباً وإياباً، ما يعني أنني أصرف البنزين في طريقي لتعبئة السيارة"، يسخر بلال من هذه الحال.
لا مدارس
تخلو كثير من القرى من المدارس الرسمية. وإن وجدت، غالباً ما تكون ذات مستوى تعليمي متدنٍ وهيكل تعليمي مترهّل، ولا تحتوي على صفوف المرحلة الثانوية. ولطالما كان أهالي القرى يقصدون المدارس الخاصة في القرى المجاورة التي أخذت طابع المدينة. اليوم، ومع زيادة كلفة الباص المدرسي تعلو صرخة الأهالي من عجزهم عن إرسال أولادهم إلى المدارس. البعض توقّف فعلاً عن تعليم أولاده لهذا السبب، والبعض الآخر يرسل أولاده مشياً على الأقدام إلى مدرسة القرية مهما كانت بعيدة وفي ظلّ أحوال مناخية سيئة جداً.
أسعار مضاعفة
يغبط أهالي القرى سكان المدينة على حياتهم "السهلة". آية، التي تقطن في بلدة أكروم العكّارية، تحسد سكان طرابلس رغم فقرها، "على الأقلّ عايشين أحسن منا". تشرح: "الحياة هنا أصعب نظراً لبُعد المسافات وصعوبة التنقل وارتفاع كلفته، فأنا أسدّد 70 ألفاً عند كلّ زيارة إلى جامعتي في حلبا. لكنّ الطامة الكبرى في العام المقبل عندما أضطر للنزول إلى بيروت لمتابعة دراستي العليا".
يشكو جميع أهالي القرى من ارتفاع أسعار السلع والخضر مقارنة بالمدينة، والتي يعيدها البائعون إلى كلفة التوصيل المرتفعة، وهناك من يرى أن قلّة عدد المحال وغياب المنافسة يدفعان البائعين إلى التسعير "على ذوقهم". "فعندما يكون ثمن كيلو البندورة في طرابلس 20 ألفاً يرتفع في أكروم إلى 30 وأحياناً 36 ألفاً". في المقابل، الأجور في أكروم متدنية إلى حدٍّ يصل فيه مجموع ما يتقاضاه أستاذ خصوصي، يدرّس جميع المواد لطلاب الشهادة المتوسطة، إلى 100 ألف شهرياً!
نقص المواد
الحياة في القرى تُضاعف الأزمات التي تعصف بالبلد، وتخلق أزمات خاصة. تذكر آية عندما وقف اللبنانيون في طوابير على محطات الوقود، "لم يصل الوقود إلى محطات أكروم نظراً لوقوعها على الحدود السورية وخوفاً من تهريبها. ولم يرضَ أصحاب المحطات في القرى المجاورة البيع لغير أهالي البلدة. وهكذا صار الناس يقودون وسيلة نقل تدعى السنفور لأنها توفر استهلاك البنزين".
وعندما حلّ الشتاء، افتقد سكان القرى وسائل التدفئة، حتى انتشرت حوادث التعدي على الأشجار في الأملاك العامة والخاصة لسرقة الحطب بغية التدفئة. تقول نور من قرية يونين في قضاء بعلبك إن "الشتاء في يونين قاسٍ ويزداد قساوة جرّاء الأزمة، أولاً لجهة عدم القدرة كالسابق على مواجهة الصقيع بصوبيا المازوت أو الحطب، وثانياً لجهة صعوبة التنقل لشراء الاحتياجات الأساسية مع غلاء البنزين وإقفال الطرقات بالثلوج".
توقّف المولّدات
تحت تهديد بلدية مركبا بالعتمة الشاملة في أيام عيد الفطر الذي مضى، لم تزر بعض العائلات قريتها في العيد لأول مرة منذ تحرير الجنوب. أطفأت البلدية مولدات الكهرباء الثلاثة ليوم واحد "بعدما وصل الدين إلى 29 ألفاً و500 دولار وامتنعت محطات الوقود عن بيعنا المازوت"، بحسب رئيس بلدية مركبا غسان حمود. "ثم تدخل حزب الله ومدّ البلدة بثلاثة آلاف ليتر مازوت وسدّد ثمن 3 آلاف ليتر عن عائلات متعثرة".
هذه الكمية كانت بمثابة مسكّن للوجع ولم تعالج مشكلة تطال 317 عائلة مقيمة بشكل دائم في مركبا. أساس المشكلة، وفق حمود، "يعود إلى وجود 3 نقاط توليد للطاقة الكهربائية تبعد كيلومتراً واحداً ونصف الكيلومتر عن بعضها يجب تشغيلها كلّها لأن الناس منتشرة في البلدة.
لكن عندما تغادر معظم العائلات القرية في شهر تشرين الأول/أكتوبر ونفقد 700 مستهلك يصبح من الصعب جداً على من تبقّى تغطية كلفة تشغيل المولّدات الثلاثة". يُضاف إلى ذلك تخفيض العائلات المقيمة استهلاك الطاقة لتوفير ثمنها، "ففي حين بلغ الاستهلاك 85 ألف كيلو في آذار 2020 تراجع إلى 25 ألف كيلو في آذار 2022". ولا ترتبط هذه المشكلة بمركبا حصراً، "الجميع يُعاني من المشكلة نفسها، ففي الدوير، مثلاً، أوقفت البلدية تشغيل المولدات منذ شهر".