نجمة في سماء الجنوب.. اسمها الخيام
نجمة هذه الحرب الدائرة اليوم هي الخيام. البلدة الواقفة اليوم وتداً متيناً يحرسها جبل الشيخ من أعلى، وتحرس بعينيها وسواعد أبنائها فلسطين، وتمدّ السهل قرطاساً تكتب، وأخواتها القريبات من بلدات الجنوب، التاريخ العزيز لهذه المنطقة.
في تاريخ بلادنا المليء بالدماء والدموع والصمود والإيثار، نجومٌ كثيرةٌ مضيئة، لكل شهيدٍ في سماء بلادنا نجم يخلّده، ولكل بلدة نجمة تعكس ضياءها الأصيل بعد أن تظلّلها الغيوم السود في محطّات العناء والصبر والتضحية، التي لا تنتهي.
ونجمة هذه الحرب الدائرة اليوم هي الخيام. البلدة الواقفة اليوم وتداً متيناً يحرسها جبل الشيخ من أعلى، وتحرس بعينيها وسواعد أبنائها فلسطين، وتمدّ السهل قرطاساً تكتب، وأخواتها القريبة من بلدات الجنوب، التاريخ العزيز لهذه المنطقة.
تقاتل الخيام منذ أسابيع في الخط الأول من المواجهة مع الجيش الغازي، والذي يحاول إخضاعها ليعيد تشكيل مساحةٍ يؤسس فيها بنيةً متناغمة معه. لكن الخيام، في مكانتها وعمق إحساسها بالتاريخ القريب لهذا الاحتلال، تحفظ عن ظهر قلبٍ صرخات المعذبين في معتقل الخيام كلهم، وتسكنها ذكريات المحرَّرين، يتلمّسون أيدي المحرِّرين من فجوةٍ بين باب الزنزانة والزمن الذي مرت سنواته سريعاً، كبروا فيها وكبرت فيهم رغبة الدفاع عن أرضهم ووجودهم وموقعهم في مقدمة أمتهم.
تخوض الخيام الآن الحرب المصغَّرة لرسم نهاية الحرب الكبرى. وفي أحيائها وحاراتها مقاتلون لا يريدون العودة إلى الوراء، لا في المساحة ولا في الزمن، وهم يعرفون أن في وقوفهم هناك، إيقافاً لمشروع "إسرائيل" في الجنوب اللبناني، ومصداق هذا الموقف أنهم يعاندون قوانين الحرب، وفجوات القدرة، ومركّبات حسابات المنطق. إن في وقفتهم هذه اختراعاً لمنطق جديد تعلو فيه الروح فوق المادة، بل تسد فيه الهوة بين ما هو منطقي وما هو حقيقي يحدث أمام العالم.
قالوا إن عمليةً استشهادية حدثت هناك، ولم يتأكد الخبر، لكن تأكد ما هو أكبر، وهو أن القتال هناك، من جانب عشراتٍ أو مئاتٍ أو آلاف، يعني أن عمليةً ارتقائيةً جماعية تحدث. ارتقاء إلى أسمى وأفعل وأمضى في صناعة معجزة تولد نجمة. نجمة هذه الحرب اسمها الخيام.
والخيام، أيضاً، خيمة نجومٍ في سماء أرض عذاب الأنبياء، فيها نظر نبيّ إلى أعلى، وشكا إلى ربّه مصير أرض الرسالات، تعقده في كل حين أيدي الشر المطلق. وها هي نجمة السهل تشع في ضوئها فوق وميض القنابل المحرقة، وها هم جنود الخيام وأهل الخط الأول يوقفون جيشاً متسلحاً بعتاد كبير وبكامل قدرة صناعة الشر، وبسكوت العالم، ويهزمونه مع صبيحة كل يوم.
يتلقى الجيش الإسرائيلي هزيمةً جديدة كل يوم هناك. يبدأ حرباً جديدة كل يوم، ويختمها بالهزيمة في المساء. فطبيعة الحرب هناك لا تدع مجالاً لمواجهة واحدة مستمرة، إذ إن الجيش يستخدم كل يوم ما يكفي لحسم الحرب بالضربة القاضية ويفشل، إذ تخرج المقاومة من كل "قاضيةٍ" مجدداً، لتنتصر وتجبر العدو على حربٍ جديدة في اليوم التالي، أو إعلان الهزيمة في حروب الخيام.
في تاريخ الأمس، كما في تاريخ المستقبل، ستكون الخيام محوراً لتشكيل حقيقة الجنوب، الذي يحمي سيادة لبنان وأرضه الموحدة. والواضح أن الخيام ترسم المشهد الأخير من هذه الحرب، ومما يبدو من أخبار ميدانها أنه مشهد سيكون مرضياً لأهلها وللبنانيين الذين يتطلعون إلى منع "إسرائيل" من تثبيت أي ركائز لسيطرة من بعيد على تفاعلات هذا المجتمع، الذي لطالما كان جاهزاً للدفاع عن وجوده وكرامته.
ليست الخيام اليوم نقطةً جغرافيةً على طاولة مخططي رسم الخرائط بالبارود والدماء، بل هي مخزنٌ لحكايات الأرض وتاريخها، ومصنعٌ لمعالم مستقبلها. هي لوحةٌ ترتسم بصلوات الكرامة، متأصلة بالتضحيات، ورمزٌ متجدد من رموز لبنان النضالية، ومسرحٌ لصراع الإرادات الذي تصنع أحداثَه عزيمةٌ لا مثيل لها، فاق أثرُها محطات الدفاع السابقة.