نازحون في حرب مفتوحة.. شهادات قاسية من سودانيين في دارفور
مآسٍ واسعة عاشها الذين كتبت لهم النجاة من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي خلال حرب دارفور التي اندلعت في العام 2003، وقبل أن تضمّد تلك الجراح كان هؤلاء الضحايا على موعد مع حرب أخرى تبدو مفتوحة وبلا سقف زمني.
ينظر النازح إسحاق عبد الله بأسى حول المكان الذي ظلّ يقيم فيه منذ 20 عاماً في مخيم "أبو شوك" في ولاية شمال دارفور غربي السودان، وهو يمنّي نفسه بأمل يضيء واقعه المظلم، وينهي رحلة نزوحه الطويلة، لكن سرعان ما يتسلّل إليه اليأس مجدّداً عندما يشاهد نيران الحرب لا تزال مشتعلة ورائحة الموت تعمّ المنطقة.
خلال عقدين من الزمان تذوّق عبد الله مرارات النزوح في شتى تجلّياتها، من جوع وعطش ونقص الخدمات الأساسية كافة، وفي الوقت الذي كان يتأهّب فيه للعودة إلى بلدته الأصلية بفضل اتفاقية سلام وقّعتها الحكومة الانتقالية مع حركات التمرّد قبل عامين، اندلعت حرب أخرى بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف نيسان/أبريل الماضي، لتقضي على آماله في الرجوع إلى قريته وإنهاء مأساته الإنسانية.
ولم يعد أمام إسحاق خيار غير الاستسلام لمصيره المحتوم بأن يقضي كلّ سنوات عمره نازحاً تحت ظروف إنسانية سيئة، بعد أن تبدّدت أحلامه في حياة مستقرة يهنأ فيها بوفرة المأكل والمشرب والتعليم وسائر الخدمات الإنسانية.
حكاية إسحاق عبد الله هي إحدى مئات الآلاف من القصص المؤلمة لنازحي الحرب في إقليم دارفور، والذين يعيشون في هذه اللحظات مآسي مضاعفة لحربين مدمّرتين، إذ يعيشون حالياً داخل مخيمات النزوح في الإقليم، ويفتقدون لأبسط مقوّمات الحياة بعد أن توقّفت المنظّمات الإنسانية عن دعمهم نتيجة انعدام المسارات الآمنة.
مآسٍ واسعة عاشها الذين كتبت لهم النجاة من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي خلال حرب دارفور التي اندلعت في العام 2003، وقبل أن تضمّد تلك الجراح كان هؤلاء الضحايا على موعد مع حرب أخرى تبدو مفتوحة وبلا سقف زمني، ولا تلوح في الأفق بوادر لتوقّفها بعدما فشلت المساعي الدولية والإقليمية كافة في احتوائها عبر مسار تفاوضي سلمي.
موت الأطفال
يتربّص الجوع والعطش بالنازحين في دارفور مع توقّف المساعدات الإنسانية، وهو واقع جعل الكثيرين يخسرون معركة البقاء، ولا سيما الأطفال الذين لم تحتمل أجسادهم النحيلة نقص الغذاء، إذ يخطف الموت طفلاً كلّ ساعتين من مخيم "زمزم" جنوبي مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، بمعدل 13 طفلاً في اليوم الواحد، وذلك بحسب ما أوردته منظّمة أطباء بلا حدود الفرنسية مؤخّراً، والتي أوضحت أن سبب وفاة هؤلاء الصغار في الحالات كلّها التي فُحِصَت هو سوء التغذية الحاد.
يُظهر إسحاق عبد الله الذي تحدّث لـلميادين نت حزناً شديداً وهو يستعيد ذكريات نزوحه الأول مع بداية اندلاع الحرب بين حكومة الرئيس السابق عمر البشير والحركات المسلحة مطلع الألفية الثانية، كان عمره وقتها 15 عاماً ليقضي حياته بعيداً عن دفء الاستقرار وتحت ظروف إنسانية سيئة وحياة تنقصها جلّ الخدمات الأساسية بما في ذلك التعليم.
مبعث حزنه كما يروي، أنه تزوّج في المخيّم ذاته، وأنجب ثلاثة أطفال، وهو يخشى أن يواجهوا مصيراً أسوأ من الذي عاشه، فالوضع الذي يعيشونه الآن أسوأ بكثير مما كان عليه الحال في الحرب السابقة، إذ كانت التدخّلات الإنسانية من المنظمات الدولية مستمرة، والغذاء متوفّر إلى حد بعيد، لكن بعد الحرب الأخيرة بين الجيش وقوات الدعم السريع "توقّف كل شيء ولا نرى سبيلاً لنجاة جديدة"، بحسب قوله.
يسيطر سؤال الحاضر والمستقبل على محيا إسحاق مع نزاع مستمر في دواخله بشأن كيفية الحصول على طعام يسد رمق أطفاله اليوم لتجنيبهم شبح الموت جوعاً، وبين التفكير في ما إن كانوا سيحظون بالرعاية الطبية والتعليم، والتي يصفها بأنها صارت ضرباً من الرفاه استناداً إلى واقع الحال في مخيم النزوح الذي يأوي إليه.
وتبدو المعاناة أكبر عند خالد هارون المقيم في مخيم السلام للنازحين في ولاية شمال دارفور، والذي يكاد يكتفي بتناول وجبة واحدة في اليوم مصنوعة من الذرة المحلية، الشيء الذي جعل أفراد عائلته عرضة للأمراض مثل الملاريا مع سوء التغذية للأطفال في ظل غياب الرعاية الصحية وشح في الأدوية، وذلك بحسب ما يرويه بأسى لـلميادين نت.
يُذكر أن الحكومة الانتقالية التابعة لعبد الله حمدوك حلّت وصادرت أيضاً منظّمات وطنية مقتدرة، كانت تقدّم الإغاثة والعون الإنساني للنازحين داخل وخارج السودان.
صفّ المياه
مع حلول الصباح في كل يوم يقضي هارون ساعات طوال في الصف للحصول على مياه الشرب التي تشهد شحاً في المخيم الذي يقيم فيه، وبعد أن يستجلب بضعة ليترات من المياه يبدأ رحلة جديدة لتوفير احتياجاتهم من الغذاء، فليس هناك ما يعولهم في الوقت الحالي، باستثناء مجهودات يقودها بعض الشباب المتطوّعين يجمعون مساعدات محدودة من الخيّرين ويوزّعونها على آلاف النازحين.
ويقول: "الوضع في مخيمنا سيئ للغاية، وقد جاءنا آلاف النازحين الجدد بعد اندلاع حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل، وليس هناك دعم كاف حيث نواجه الجوع والعطش، ونرى الموت بأعيننا هذه الأيام، في ظل نقص الغذاء واستمرار المعارك العسكرية من حولنا".
وبسبب تباين خريطة السيطرة الميدانية لطرفي الحرب، تحوّلت مناطق في السودان إلى جزر معزولة يصعب التواصل فيما بينها، ولا سيما العبور من شرق البلاد إلى غربها، الشيء الذي جعل عمل منظمات الإغاثة مهمة شبه مستحيلة، وتتهم دوائر حقوقية كلّاً من الجيش وقوات الدعم السريع بإغلاق المسارات الإنسانية واستهداف شحنات الإغاثة.
وفي واقع شديد الظلام، يتحرّك الشاب عبد الحفيظ الغالي برفقة متطوّعين آخرين في مخيم "أبو شوك" شرقي مدينة الفاشر، يتلمّس احتياجات الفارين من نيران الحرب، وهم يحاولون تضميد بعض من الجراحات بموارد شحيحة يجمعونها من أصحاب المحال التجارية والخيّرين في المنطقة، وسط غياب للسلطات الحكومية.
يعمل الغالي الذي تحدّث لـلميادين نت بجهد لتخفيف معاناة النازحين، فهو أكثر إحساساً من غيره بتلك المآسي لأنه تجرّع مرارة النزوح طوال 20 عاماً ماضية، وما زال يقيم في هذا المخيم، ويقول: "ازداد الوضع سوءاً عمّا كنّا عليه في السابق، لقد أصبح مخيمنا وجهة لسكان 4 ولايات من أصل 5 ولايات في إقليم دارفور؛ مما شكّل ضغطاً كبيراً في ظل نقص الغذاء والمياه".
ويضيف: "يعيش النازحون في 3 مخيمات للنازحين في ولاية شمال دارفور حيث تفتقر لأبسط مقوّمات الحياة، حتى مياه الشرب يضطرّ النازحون للوقوف في صفوف طويلة للحصول عليها، نحن بحاجة إلى تدخّلات عاجلة من المنظّمات الدولية".
مآسٍ صامتة
وإن كان النازحون في المخيمات الواقعة في ولاية شمال دارفور، والتي يحتفظ الجيش بسيطرته عليها تمكّنوا من توصيل أصواتهم واستغاثاتهم، فإن مئات آلاف النازحين في الاتجاه الجنوبي من الإقليم في مخيمات مثل "كلمة"، يواجهون مآسيهم في صمت نتيجة انقطاع خدمات الاتصالات والإنترنت في المنطقة.
يقول المتحدث الرسمي للمنسّقية العامة للنازحين واللاجئين (منظمة حقوقية) آدم رجال في حديث لـلميادين نت: "نواجه صعوبات في التواصل مع النازحين في بعض المخيمات؛ بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت، فالوضع أصبح حرجاً، ويمضي نحو كارثة إنسانية، فالنازحون جميعهم لم يتلقّوا حصصهم الغذائية من برنامج الغذاء العالمي لأكثر من 10 أشهر متواصلة، وذلك نتيجة لنهب المخازن وعدم تمكّن المنظّمة الدولية من إرسال مساعدات جديدة لانعدام المسارات الآمنة.
يطلق رجال نداء استغاثة للمجتمع الدولي بأن يتذكّروا ضحايا الحرب في دارفور، فهم بلا غذاء الآن ينتظرون فقط رحمة السماء، وإلا سيواجهون شبح الموت بالجوع والمرض، فالأطفال والنساء الحوامل يتوفّون بشكل يومي وبأعداد كبيرة في المخيمات نتيجة سوء التغذية الحاد في ظل غياب تام للرعاية الطبية، وينبغي المسارعة بالضغط على الأطراف لوقف الحرب وفتح المسارات الإنسانية.
ويلفت إلى أن النازحين كانوا يكملون نواقصهم المعيشية من خلال العمل في المهن الهامشية والزراعة المحدودة، ولكن بعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع توقّفت كلّ هذه الأعمال مع انقطاع حصصهم الغذائية، حتى المجتمع المستضيف في السابق صار نازحاً بسبب عمليات القتال التي تعمّ كلّ السودان.
ويشعر المتحدّث باسم منسقيّة النازحين واللاجئين، بخيبة أمل كبيرة تجاه ما يجري مع نازحي دارفور الذين قضوا عشرين عاماً في مخيمات النزوح، وقبل أن يتحقّق حلمهم في العودة إلى ديارهم الأصلية والقصاص من مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية، تفجّرت حرب أخرى بتداعيات أكثر قسوة من سابقتها لتدخلهم في رحلة نزوح أبدية، إنه "أمر مؤلم تتداعى له قلوب الإنسانية جمعاء"، يختم آدم.