"موسم التقطير" في الجزائر: أريج يقاوم غلاء الزّهر والورد
تولي العائلات القسنطينية أهمية بالغة للحفاظ على حرفة تقطير الأزهار، فلا يخلو بيت من "القطّار" وهي الآنية المستخدمة لاستخلاص ماء الزهر والورد.
تنثر أزهار النارنج والورد الجوري عطرها في المدن العريقة كقسنطينة (شرق الجزائر)، والبليدة والقليعة (وسط)، معلنة بداية موسم التقطير على الطريقة التقليدية أو "التقطار" باللهجة المحلية.
تجذب الجنائن المتفتّحة زبائنها من العائلات التي تحافظ على حرفة التقطير جيلاً بعد جيل، ويحجّون إلى بيوت "القطّارين" كل موسم، بحثاً عن عبق تراث يملأ قوارير لا غنى عنها في الطبخ، وحتى في التجميل وعلاج بعض الأمراض. وتستمرّ هذه المهنة برغم غلاء سعر الورد والزهر في استخلاص الماء منهما قطرةً قطرة.
نكهات من زمن الأجداد
ينتشر التقطير، وهو صنعة قديمة، في عدد من محافظات الجزائر، خاصة قسنطينة والبليدة والقليعة، ينطلق موسمه آواخر نيسان/أبريل وبداية أيار/مايو وينتهي بنهاية حزيران/يونيو.
في هذا السياق، تقول المهتمّة بالتراث الشعبي لعاصمة الشرق فلّة رحّال لـلميادين نت إن تاريخ هذه المهنة يعود إلى بدايات القرن السابع عشر، عندما أهدى رجل صيني شجرة نارنج لإحدى كبار عائلات المدينة خلال فترة حكم الدولة العثمانية.
اكتشفت العائلة أن ثمار الشجرة التي تشبه اليوسفي (المندرين) لم تكن طيّبة المذاق، غير أن رائحة أزهارها زكيّة، فقامت بتقطيرها للحصول على "ماء الزهر"، وكانت تلك عملية كيميائية شائعة في ذلك العصر، ومن حينها انتشرت أشجار النارنج في البساتين وشاعت عملية التقطير بين العائلات، ثمّ امتدّت لتشمل الورد العربي أو الجوري، ولا تزال بعض تلك الأشجار صامدة إلى يومنا هذا، ناثرة عطرها.
تولي العائلات القسنطينية أهمية بالغة للحفاظ على هذه الحرفة، فلا يخلو بيت من "القطّار" وهي الآنية المستخدمة لاستخلاص ماء الزهر والورد.
"هي صنعة تذكّرنا برائحة الزمن الجميل.. جلسات الجدّات والأمهات وَسْط الدار، حول صينية القهوة المنكّهة بمرشّ الزهر، والحلوى التقليدية في المناسبات والسهرات، على أنغام المالوف الصوفية، ونسائم الورد الشجيّة"، تقول رحّال.
طول بال وعمل شاقّ
للورد عمر قصير، لكنّه يحتاج نفساً طويلاً أثناء تقطيره.
تُقطف الورود حديثة التفتح عند شروق الشمس، ومن دون تأخير توضع في القطّار قبل أن تذبل وتفقد عطرها. وعلى العكس منه، ينشر الزهر بعد قطفه على قطعة قماش في الظلّ حتّى يذبل تماماً، لأن ذلك سيزيد نكهته تركيزاً وحدّة.
يتكوّن "القطّار"، من جزأين منفصلين يوضع أحدهما فوق الآخر، الجزء السفلي قدر نحاسي ثقيل، يصبّ فيه كيل محدّد من الماء (3 لتر تقريباً)، ثم يضاف إليه مقدار غربال من الزهر أو الورد (حوالى 800 غرام).
ثم يغطّى القدر بالجزء العلوي ويملأ بالماء، وهو إناء أكبر منه في وسطه قبّة مجوّفة من الأسفل، وعلى جانبيه أنبوبين، الأول موصول بقارورة زجاج لنزول الماء المقطّر فيها، والثاني لتفريغ الماء وتبديله كلما ارتفعت درجة حرارته، كخطوة أساسية لنجاح التقطير.
يوضع "القطّار" على النار ويترك حتى تنزل أول قطرة ماء من البخار المكثّف في قارورة الزجاج التي تسمّى "المغلّفة"، وهي عملية تتطلّب صبراً وسعة بال، فامتلاء القوارير يحتاج ساعات طويلة، ومراقبة مستمرّة لماء التبريد، وهو ما تؤكّده لـلميادين نت ياسمين خالد الحرفية في التقطير.
تسمى أول كمية مستخلصة من ماء الزهر أو الورد "رأس القطار"، ومقدارها لترين، وحسب ياسمين، فإنها الأفضل جودة والأكثر تركيزاً والأغلى ثمناً، وقديماً كانت النساء تحتفظن بها للمناسبات، أو لاستقبال الضيوف، أو تقدمنها كهدية لشخص عزيز.
تتبع هذه الكمية بالنسبة للزهر كمية ثانية تسمى "الجرّ"، إذ إنه وبعد استخلاص لترين من "رأس القطّار"، يستخلص لتر أو اثنين آخرين، يكون "الجرّ" أقل جودة، وعادة ما يستعمل للاستحمام، أو لغسل الأفرشة وتطهير البيت، أو لتحضير بعض أنواع الخبز.
طقوس خاصة
للتقطير طقوس خاصة ترافقه، تسردها الحرفية حياة كالي للميادين نت، فعند اقتناء آنية "القطّار" الجديد تفركه بالمسك ثم الملح ثم السكر، حتى لا يفسد بمرور الوقت ولا يحترق من الداخل.
وقبل أن تشرع في التقطير، تنثر السكر على حواف الموقد، وتشعل أعواد العنبر، وتلبس ثوباً أبيض أو زهرياً، وهي طقوس ورثتها عن والدتها، اعتقاداً منها أنها فأل خير.
أما القارورة الزجاجية الموصولة بأنبوب التقطير فتُغطى بقطعة قماش، ظنّاً أن ذلك يحميها من أي عين حاسدة.
ومن الطقوس التي لا بدّ منها عند بدء التقطير، إعداد "الطمينة البيضاء"، وهي حلوى تقليدية عبارة عن سميد محمّص يرشّ بماء الورد أو الزهر ويجمع بالزبدة والعسل الطبيعيين.
بعض العائلات تتوقّف عن التقطير في بيوتها إذا توفي أحد أفرادها، ويستمرّ توقفها موسماً أو موسمين كاملين، لأنها تعتبر التقطير دلالة عن الفرح.
استخدامات متعدّدة
يستعمل ماء الورد في الأطباق التقليدية كتلك التي تمزج بين المالح والحلو (شباح السفرة، طاجين الحلو..)، والحلويات (البقلاوة، مقروط اللوز..).
ويستخدم أيضاً في علاج أمراض العيون، وخفض الضغط الدموي، إلى جانب استعماله للعناية بالبشرة.
أما ماء الزهر فيستعمل في تعطير القهوة، وإعداد الخبز، ومعالجة ضربات الشمس، وارتفاع الحمّى.
حرفيون يقاومون غلاء الورد والزهر
تعرف أسعار الورد والزهر ارتفاعاً من موسم لآخر، ففي العام الماضي كانت ياسمين رحال تشتري غربال الورد (حوالى 800 غ) مقابل 11 دولاراً، لكنها مضطرّة هذا العام إلى دفع 16 دولاراً للحصول على الكمية نفسها.
تؤثّر هذه الزيادة على سعر ماء الورد والزهر المقطّر، حيث تراوح سعر اللتر الواحد منه هذا العام بين 15 و20 دولاراً.
مع هذا الغلاء، تلجأ بعض العائلات إلى تقطير ما تحتاجه في المنزل، وتعوّضه أخرى بماء الزهر والورد الصناعي الأقل كلفة مقارنه بالأصلي، مما يؤثّر سلباً على الحرفيين مثل ياسمين، بسبب مشاكل التسويق، وغياب الرقابة الرسمية في هذا القطاع، وهو ما سمح بانتشار منتوج مغشوش يسوّق على أنه أصلي، وبثمن أقل عمّا ينتجه حرفيو التقطير.