الهجرة غير الشرعية: سوريون يواجهون واقعاً قاسياً بعد وصولهم إلى بلاد الاغتراب
يدفع اليأس من الظروف المعيشية المتدهورة منذ أكثر من عشر سنوات كثيراً من السوريين إلى الهجرة بأي وسيلة، بحثاً عن بيئات أكثر ملاءمة واستقراراً، إلا أن غير الشرعية منها وغير المخطط لها غالباً ما تنتهي بكوارث.
لا يقتصر تعريف الموت في الحروب على الطريقة التقليدية بالرصاص والقذائف، فهناك الأمراض والأوبئة، وما يرافقها من انهيارات اقتصادية وتدهور في الحالة النفسية نتيجة الظروف الخانقة والعقوبات الجائرة، وهي أداة حرب ضد الشعوب بطبيعة الحال، وتؤدي بدورها إلى إفراغ البلاد من مواردها البشرية والمجتمع من قيمه والمواطنين من شعورهم الوطني، خصوصاً مع انعدام الحلول والانفراجات في الأفق نتيجة سوء إدارة هنا وفساد هناك.
يدفع اليأس من الظروف المعيشية المتدهورة منذ أكثر من عشر سنوات كثيراً من السوريين إلى الهجرة بأي وسيلة، بحثاً عن بيئات أكثر ملاءمة واستقراراً، إلا أن غير الشرعية منها وغير المخطط لها غالباً ما تنتهي بكوارث ليس آخرها "مركب الموت". العنوان الأسود لخبرِ غرقٍ مفجع استيقظت على وقعه أسر من جنسيات سورية ولبنانية وفلسطينية سافر بعض أفرادها على متنه، وانتهى بوفاة معظمهم قبالة جزيرة أرواد السورية.
مقومات الحياة الأساسية منعدمة
لم يكُن "مركب الموت" أول حادث غرق مفجع لسوريين ولن يكون الأخير. يكفي البحث على مواقع التواصل الاجتماعي عن حوادث غرق لتصادف عشرات الحالات التي وقعت أخيراً. ووسط انعدام شبه تام لمقومات الحياة الأساسية من ماء شرب وكهرباء ووقود، فضلاً عن الارتفاع الجنوني في الأسعار مع انخفاض دخل الفرد إلى مستويات غير مسبوقة، ما تسبب بوقوع أكثر من 90% من الشعب السوري تحت خط الفقر وفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا، وهو ما يدفع كثيرين إلى الهجرة بأي وسيلة، إلا أن الحكاية لم تنتهِ هنا، ليواجه المهاجرون جشع شبكات التهريب والإتجار بالبشر.
عملية احتيال كبيرة
في حديث إلى الميادين نت أوضح القبطان علي ديبه أن توقيت انطلاق المركب كان خطأ كبيراً من دون خطة ملاحية فضلاً عن أن المسؤول عنه يفتقر إلى أدنى المعلومات المتعلقة بالسفر بحراً، مضيفاً: "بحساب تقريبي، يلزم الوصول من ميناء طرابلس في لبنان إلى الوجهة المفترضة على الشواطئ الإيطالية نحو عشرين يوماً في حال لم يتوقف المركب عن الإبحار على مدار اليوم وبسرعة عقدتين في الساعة أي ما يعادل 3.7 من الكيلو مترات في الساعة، ويلزمه نحو 5 آلاف ليتر من مادة المازوت التي بدورها ستشكل حملاً إضافياً في حال توافرها أصلاً مع عدد المهاجرين غير المنطقي الذي قُدِّر بـ160 فرداً".
وهو ما دعا المهندس البحري فراس صقر إلى وصف الموقف بعملية "احتيال كبيرة"، مشيراً إلى أن المركب المستخدم في العملية هو من المراكب المتعارف عليها في المنطقة (إما قارب صيد ونزهة أو قارب صيد جارف)، وبالتالي نقل الركاب بهذه الطريقة عملية نصب واضحة لعجز المركب عن الإبحار لمسافات كبيرة في المياه الدولية.
الهروب إلى الأمام لا يجدي نفعاً
لا يتعلق اليأس بقرار سفر عشوائي في مركب بحري لا تتجاوز نسبة وصوله آمناً إلى وجهته 10% فقط، بل هناك مَن يسافر بذريعة الدراسة إلى أي بلاد تتاح له من دون امتلاك أي مؤهلات دراسية لاستكمال دراسته أو حتى الرغبة فيها، يقول علي (اسم مستعار): "قبل نحو أربع سنوات حصلت على منحة دراسية ممولة في الهند، وكان الهدف هو الهروب من الظروف الخانقة وسط شح في فرص السفر حينذاك وضعف الحال المادية، لكن الانهزامية رافقتني طوال تلك السنوات لتنتهي من دون تحصيل ما هو كفيل لإكمال دراستي في المستقبل أو إيجاد فرصة عمل، مضيفاً أنه لا يملك الآن خياراً سوى العودة إلى سوريا ومثله مئات الطلاب، ويؤكد الطالب السوري أن خيار السفر بغرض الدراسة يمنح الطالب امتيازات عديدة بشرط وجود المقوّمات العلمية والرغبة في الدراسة، "فالهروب إلى الأمام لا يجدي نفعاً".
ابتزاز وتهديد وسط البحر
مع أنه وصل بطريقة غير شرعية بعد أن عانى الأمرين معرِّضاً حياته للخطر، يصف أحمد (اسم مستعار) التطوّر في ألمانيا بالمذهل ولا يقارن به في سوريا، ويقول: "سافرت بطريقة في البحر وخضعت لابتزاز المهرِّب وسط البحر حيث طالب بألف دولار أميركي وإلا فسيكون مصيري الغرق". ثم وصل أحمد سالماً، إلا أن عائق الاندماج، وبخاصة اللغة لا يزال شبحاً يرافقه على الرغم من إتقانه الانكليزية التي لم تنفع مع الشركات الألمانية التي تشترط إتقان الألمانية ليعمل في الهندسة الميكانيكية، ما تسبّب بتدهور أوضاعه المادية مع أنه سمع كثيراً عن وفرة فرص العمل قبل سفره، ويقول: "من حق كل شخص أن يتخذ قرار الهجرة، إلا أن عليه تحديد الوجهة جيّداً قبل أن يضع حياته بأيدي مهرّبين يرون في أحلام المهاجرين مبالغ تُضاف إلى حساباتهم المصرفية".
أوهام في مدن الأحلام
استدانت نور (اسم مستعار) للمرة الثانية على التوالي مبلغاً مادياً لتجديد إقامتها في دبي بعد عجزها عن إيجاد فرصة عمل منذ ستة أشهر، تقول الفتاة العشرينية: "سمعت كثيراً عن مدينة الأحلام والأعمال والشهرة، ورغبت في تحقيق حلمي هناك خصوصاً بعد السماح للسوريين بالسفر إليها، لكن الحقيقة كانت مختلفة كلياً على أرض الواقع"، إذ على كل من يرغب في السفر إلى مثل هذه المدن أن يوفر سكناً أولاً ومصروفاً كبيراً يوافق الأسعار الباهظة فيها، إلى حين الحصول على عمل ملائم، وإلا فسيضع نفسه في دوَّامة حقيقية، لافتة إلى أن السفر ليس "تريند" على "انستغرام". ولو أن الحياة في سوريا باتت شبه منعدمة لكن يستحق كل إنسان سوري أو أياً كانت جنسيته ألا يقضي سنواتٍ أخرى في حياة أصعب.
خلال حرب القوقاز التي بدأت عام 1817، هرب مئات آلاف الشركس عبر البحر الأسود نحو بلاد الشام وتركيا ومصر، مات منهم عشرات الآلاف بعد غرق قواربهم البدائية، ثم حرّم الشركس على أنفسهم سمك البحار قرناً من الزمن، كيلا يأكلوا لحم إخوتهم الذين بلعهم السمك.
ما الذي تبقى للسوريين اليوم ليحرّموا أكله حداداً على إخوتهم وأبنائهم وهم لا يجدون قوت يومهم؟ وبعد تجربة الموت غرقاً، من يحمي الباقين من الموت يأساً؟