من اللجوء في تركيا إلى النزوح في إدلب.. عودة السوريين المُرة
يزدحم معبر باب الهوى الحدودي، الرابط بين تركيا وإدلب، بكثيرين من اللاجئين السوريين الذين يحملون متاعهم، عائدين إلى الشمال السوري، إمّا مُجبَرين بسبب ترحيلهم من السلطات التركية لأسباب متعدِّدة، وإمّا بكامل إرادتهم.
يزدحم معبر باب الهوى الحدودي، الرابط بين تركيا وإدلب، بكثيرين من اللاجئين السوريين الذين يحملون متاعهم، عائدين إلى الشمال السوري، إمّا مُجبَرين بسبب ترحيلهم من السلطات التركية لأسباب متعدِّدة، وإمّا بكامل إرادتهم بعد الزلزال الذي ضرب أجزاءً من البلدين، مُخلِّفاً آلاف الضحايا والنازحين.
وكانت إدارة المعبر أعلنت، نهايةَ آذار/مارس الماضي، أن عدد السوريين الوافدين من الولايات التركية المنكوبة إلى الأراضي السورية بلغ أكثر من 22500 شخص.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عدد سكان إدلب يبلغ اليوم نحو أربعة ملايين شخص، بينهم أكثر من 1.7 مليون يعيشون في مخيمات النازحين.
أنا هنا.. وهو هناك
بالقرب من بلدة دير حسان، شماليّ إدلب، وضمن أحد المخيمات العشوائية، تعيش عفاف الزير مع والديها في ظروف تصفها بـ"المزرية والمفتقدة أدنى مقوّمات الحياة".
اضطرت الشابة العشرينية إلى العودة مع رضيعها إلى إدلب، تاركةً زوجها وحيداً في تركيا، بعد أن غيّر مكان سكنه وعمله، غاضباً من محاولة شبّان الحي الأتراك المستمرة اقتحام منزلهم بالقوة، لولا تدخل بعض السكان.
وتقول للميادين نت: "واجهنا تهديدات مستمرة من أجل تَرك منزلنا من دون أي أسباب سوى أننا لاجئون سوريون، ولم تَلقَ شكاوينا في مخافر الشرطة أي استجابة، أو أي آذانٍ مُصغية".
عجزت عفاف وزوجها عن إيجاد أي منزل آخر للإيجار، نتيجة ارتفاع الأسعار، وبسبب رفض الأتراك تأجير منازلهم للسوريين، فكان خيار العودة إلى إدلب أفضل من الذهاب إلى المخيمات التركية، لأنه" في كل الأحوال، سأسكن خيمةً لا تقي من برد الشتاء ولا حرّ الصيف. وعلى الأقل، أكون هنا في مأمن أكثر إلى جانب أهلي"، بحسب تعبيرها.
تُمضي أم محمد لياليها بالبكاء، بسبب حالة عدم الاستقرار التي تعيشها، فلا هي تستطيع العودة لتكون إلى جانب زوجها، ولا هو يستطيع المجيء إلى إدلب، بسبب نسبة البطالة المرتفعة، وعدم وجود عمل يمكّنه من الإنفاق على عائلته، وهو ما دفعه إلى البقاء هناك على رغم المخاطر والتحديات.
كل شيء يرتفع.. عدا أجورنا
يقطع أبو محمد يومياً مسافة 15 كيلومتراً على دراجته النارية، من أجل الوصول إلى أحد الحقول في بنّش في ريف إدلب، حيث يعمل مياوماً.
في ظل عدم الاستقرار الأمني والبطالة، لم تتوافر خيارات كثيرة للعمل للرجل الأربعيني، الذي عاد إلى إدلب من ولاية هاتاي التركية، بعد الدمار الكبير الذي تعرّضت له من جرّاء الزلزال، فكان سبيله الوحيد إلى تأمين مصاريف أسرته واحتياجاته هو اللجوء إلى العمل في الأراضي الزراعية.
لكن جهده هذا يضيع هباءً بسبب "ثبات أجرته واستمرار انهيار الليرة التركية أمام الدولار، وسط غياب الرقابة على التجار والأسواق".
وكانت الفصائل المسلحة، التي تسيطر على شمالي سوريا، أعلنت، في حزيران/يونيو 2020، منع التعامل بالليرة السورية، وفرض التعامل بالليرة التركية بدلاً منها.
"ثمن كيلو لحم الخروف يساوي أربعة أضعاف راتبي، وسعر كيلو الدجاج أكثر من نصفه"، هكذا يقيس أبو محمد القوة الشرائية لما يتقاضاه، مقدّراً تكلفة الحد الأدنى للعيش بـ500 ليرة تركية، وهو المبلغ الذي لم يسبق أن حصل عليه قطُّ.
أمّا الفواكه، التي لم تدخل إلى بيته منذ أن عاد إلى إدلب، فيوضح أنه يعرف أسعارها من خلال التبديل اليومي الذي يقوم به أصحاب البسطات للأوراق الكرتونية الكبيرة التي يكتبون عليها الأسعار. فمثلاً، خلال فترة قصيرة "ارتفع سعر كيلو التفاح من 10 ليرات إلى 13 ليرة تركية، وكيلو الموز ارتفع إلى 22 ليرة بدلاً من 18 ليرة".
لكن الطامة الكبرى، بالنسبة إلى أبي محمد، هي أسعار المحروقات، فهو لا يستطيع استبعادها عن المصروف، لأنها السبيل الوحيد إلى الذهاب إلى عمله عبر دراجته النارية.
وكانت شركة "وتد للبترول"، المحتكرة لسوق المحروقات في شمالي غربي سوريا، والتابعة لـ"هيئة تحرير الشام"، حددت، العام الماضي، أسعار المحروقات والغاز بالدولار الأميركي، بدلاً من الليرة التركية.
آخر الحلول.. خيمة
"كبالع الموسى على الحدَّين"، بهذه العبارة يصف عبد القادر عرب حالته بعد عودته مؤخَّراً من تركيا إلى إدلب.
بعد هدم السلطات التركية منزله المتضرر نتيجة الزلزال في ولاية غازي عنتاب، لجأ أبو جميل، بصورة موقتة، إلى أحد مراكز الإيواء، التي "تعاملت وفق سياسة تمييزية لمصلحة سكان البلاد من الأتراك، الذين كانت الأولوية لهم فيما يتعلق بتوزيع المساعدات".
هذا الأمر جعل بد القادر عرب يتوجه إلى البحث عن أي منزل للإيجار، لكنه صُدم بالأسعار التي حلّقت عالياً، إذ إن "المكان الذي كانت قيمة إيجاره الشهرية لا تتجاوز 4000 ليرة، تضاعف إيجاره ليصبح 8000 ليرة".
لم يتبقَّ أمام الرجل الخمسيني، في تلك اللحظة ، سوى الانتقال إلى ولاية أخرى غير متضررة، من أجل البحث عن عمل ومأوى، على رغم ما تحمله هذه الخطوة من مخاطرة.
وبعد يوم واحد فقط من وصول عبد القادر عرب مع أفراد عائلته إلى إسطنبول، قامت إحدى الدوريات الأمنية بتوقيفهم، ثم نقلتهم مديرية الهجرة إلى مركز الترحيل، على رغم امتلاكهم بطاقة حماية موقّتة معروفة باسم "كيملك" من غازي عينتاب.
ويشرح الرجل الخمسيني ما حدث معه للميادين نت، فيقول: "لم يسمحوا لنا باصطحاب أي من ممتلكاتنا الشخصية، ولا حتى ما نملك من المال. اقتادونا إلى مخفر للشرطة، ومنه إلى الجزء الآسيوي من اسطنبول، حيث وضعونا في سجن حتى الصباح، ثم نقلونا إلى هنا".
طوال رحلة الطريق إلى إدلب، التي لم يزرها منذ أن غادرها قبل ستة أعوام، كان عبد القادر عرب يفكر في موضوع واحد: "كيف سيعيش؟ ومع من سيتعامل، في مناطق تتقاسم إدارتها أطياف متعدّدة من الميليشيات؟!".
ويبدو أن أمر العثور على منزل للإيجار لم يكن بهذه السهولة في إدلب أيضاً، نظراً إلى ازدحام المناطق، التي لم تتأثر بالزلزال، بالسكان والنازحين، ولا سيما أن الأبنية الضخمة والطبقات العلوية فيها لم يعد السكن فيها مرغوباً فيه، بل بات الجميع يفضّلون البيوت ذات طابع البناء العربي، والمستقلة.
تعيش عائلة أبي جميل على المساعدات الإنسانية التي تقدمها المنظمات، بعد أن صرف القليل الذي كان في حوزته، إذ إنه كان يعمل في تركيا من دون تأمين، ويتقاضى أجره الزهيد بصورة أسبوعية، على نحو لا يسمح له بالادّخار.
لم يجد ابن معرة مصرين مفراً من تشييد خيمتين عند أطراف الأراضي الزراعية غربي المدينة إلى جانب خيمتي أخيه.