من اللجوء إلى الهيمنة.. نصف يهود أميركا يؤيدون وقف الحرب على غزة
نصف اليهود في جميع أنحاء الولايات المتحدة يؤيدون وقف إطلاق النار في غزة، وترتفع النسبة عند الديمقراطيين اليهود لتصل إلى 57%. وتفتخر مدن أميركية تبنّت قرار وقف إطلاق النار بوجود عدد كبير من السكان اليهود فيها.
يشعر الملايين من اليهود في الولايات المتحدة بآصرة وثيقة تربطهم بـ"إسرائيل"، ولطالما كانوا داعمين لها بقوة مادياً ومعنوياً، غير أنّ جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة، بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قد لعبت دوراً محورياً في زعزعة التماسك اليهودي في هذا الاتجاه.
واللافت، أن الحرب، على ما يبدو، قد بدأت تعمل على تصدع القاعدة اليهودية الموالية لـ"إسرائيل" في الولايات المتحدة، فقد أخذت مجموعات يهودية ليبرالية داعمة لـ"إسرائيل"، مثل منظمة "أميركيون من أجل السلام الآن" ونحوها من المنظمات التي تؤيد الحلول الدبلوماسية، بالحثّ على وقف العنف، على الرغم من أن هذه المنظمات تعطي الأولوية للعرقية اليهودية في "إسرائيل"، وهيمنتها العسكرية.
وقامت منظمة "جي ستريت"، التي تلتزم بدعم "شعب ودولة إسرائيل"، بمطالبة الإدارة الأميركية بالضغط على "إسرائيل" للالتزام بالقانون الدولي للحرب، وإنهاء الحصار المفروض على غزة، بعد أن تعرضت لفقدان موظفيها وجهات مانحة، على خلفية عدم إدانتها الانتهاكات الفظيعة للاحتلال الإسرائيلي في غزة.
نصف اليهود الأميركيين مع وقف الحرب
وتفتخر مدن أميركية تبنّت قرار وقف إطلاق النار في غزة بوجود عدد كبير من السكان اليهود فيها، بما في ذلك شيكاغو ومنطقة بوسطن الكبرى، وقد يعكس هذا نشاط المجموعات اليهودية المناهضة للحرب، مثل "الصوت اليهودي من أجل السلام"، في انتخابات مجالس هذه المدن.
وقد كشف استطلاع للرأي أجراه "معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم" (ISPU) مطلع العام الجاري، أن نصف اليهود في جميع أنحاء الولايات المتحدة يؤيدون وقف إطلاق النار في غزة، وترتفع النسبة عند الديمقراطيين اليهود لتصل إلى 57%.
ويميل الشباب اليهود في البلاد، وفق استطلاعات للرأي أجراها مركز "بيو" للأبحاث في الشهرين الماضيين، إلى التعبير عن مواقف سلبية تجاه "إسرائيل" أكثر بكثير مما يفعله الأميركيون الأكبر سناً، وهم كذلك، أقل عاطفة في ما يتعلق بمستوى الارتباط مع "إسرائيل".
ويبلغ تعداد الجالية اليهودية في الولايات المتحدة أكثر من 7 ملايين نسمة، ويمثلون ما نسبته 2.5% من سكان الولايات المتحدة، بيد أنهم يمتلكون تمثيلاً بارزاً في النخب الاقتصادية والثقافية، ويتمتعون بنفوذ كبير في دوائر السلطة السياسية.
فما هي قصة الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية، والتي بدأت باللجوء وانتهت بالهيمنة على السلطة؟
ترحيب بعد إقصاء
"أتمنى أن يستمر أبناء نسل إبراهيم، الذين يسكنون هذه الأرض، بالتمتع بحسن نية السكان الآخرين، بينما يجلس كل واحد في أمان تحت كرمته وشجرة التين الخاصة به،من دون وجود من يخيفه".
هذه العبارات القصيرة، التي كتبها رئيس الولايات المتحدة الأول، جورج واشنطن، في صيف عام 1790 ليهود "نيوبورت"، دشنت بداية عهد من الحرية الدينية في البلد الوليد، وأعلنت ترحيباً وتسامحاً تجاه اليهود، الذين أصبح لهم، ولأول مرة، في تاريخ المجتمعات الغربية، حقوق متساوية، وباتت الطرقات ممهدة أمامهم، ليطرقوا أبواب شتى المجالات.
ومع ذلك، كانت الأوضاع تتأرجح أحياناً، فأثناء قيادته للجيش عام 1862، قام الجنرال يوليسيس جرانت- في عهد الرئيس أبراهام لينكولن - بطرد جميع اليهود من منطقة الحرب التابعة له، بناء على ما ورده من تربُّح اليهود من الحرب، ولكن جرانت نفسه عندما تولى رئاسة الولايات المتحدة لاحقاً، كان أول رئيس أميركي يحضر افتتاح كنيس يهودي.
وعلى الرغم من تجنب أكثرهم التزام الهيئة التقليدية المميزة لليهود، فقد تعرضوا على مدى عقود في الولايات المتحدة لسلوكيات عنصرية ومتطرفة، فكانوا يُمنعون من دخول النوادي والفنادق والسكن في بعض الأحياء، وكان يحدد التحاق أبنائهم بالجامعات والمدارس، وقد أبدى اليهود معارضة شديدة للقوانين المتحيزة، مثل حصر عضوية المجالس التشريعية للولايات بالمسيحيين.
اللجوء
استوطن اليهود الأوائل البلاد، قبل استقلال الولايات المتحدة، بما يربو على قرن من الزمن، فقد وصلت الجالية الأولى المكونة من 23 لاجئاً يهودياً عام 1654 إلى مدينة نيويورك، التي كانت تعرف - آنذاك- باسم "نيو أمستردام".
ولم تكن البداية مبشرة بالخير، فقد هربوا من محاكم التفتيش البرتغالية في البرازيل ليواجهوا الرفض والإقصاء في الأرض الجديدة، ولم يؤذن لهم بالاستقرار في المنطقة أول الأمر، ولكن بعد مضي ثلاث سنوات تمكنوا من الإقامة في مانهاتن بشرط ألا يبنوا كنيساً أو يترشحوا لمنصب عام.
وخلال القرن الثامن عشر، عبَرت جماعات من اليهود المحيط الأطلسي من ألمانيا وبولندا متطلعين بلهفة إلى الموطن الجديد، وبالرغم من ذلك، بقي الوجود اليهودي في الولايات المتحدة محدوداً، فقد كانوا إبان الثورة الأميركية (1775–1783)، نحو 1500 شخص، توزعوا على نحو خمسة تجمعات يهودية، وكانت مدينة نيويورك، التي تضم أكبر عدد من السكان اليهود في البلاد، لا تستضيف حتى عام 1812، سوى 50 عائلة من اليهود.
بين الاندماج والحفاظ على الهوية
وكانت ممارسة التقاليد الدينية بما يتوافق مع واقع الحياة الأميركية، تشكل تحدياً كبيراً لليهود. لقد عاش معظمهم في بلدات صغيرة، حيث كان من العسير الالتزام بنمط الحياة الدينية اليهودية، وكانت المدن تفتقر إلى المعابد اليهودية وملحقاتها اللازمة للقيام بالطقوس الدينية، وكان المتعذر بحسب أسلوب الحياة الجديدة، الامتناع عن العمل يوم السبت، وأصبح اليهود بمرور الأيام يأخذون منحى أكثر علمانية.
وفي العقد الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت أولى الجهود البروتستانتية المنظمة لتحويل اليهود إلى المسيحية، وقاوم اليهود جهود التبشير الموجهة نحوهم، ورفضوا تلاوة الصلوات المسيحية في المدارس العامة، وبدأت المجتمعات اليهودية بإنشاء المدارس والمستشفيات والمعابد الخاصة بهم، وتعيين حاخامات أجانب كقادة دينيين، بهدف الحفاظ على هويتهم المميزة.
ومن جانب آخر، قامت جماعات من اليهود بتأسيس حركة الإصلاح الأميركية، حيث بدأ التخفف من بعض التقاليد اليهودية الأرثوذكسية، وأعلن الحاخامات الأميركيون الإصلاحيون أن على اليهود الإصلاحيين اتباع أخلاقيات التوراة لا طقوسها.
وقام عدد من التجمعات اليهودية بممارسة طقوس يرونها تتناغم أكثر مع المجتمع الأميركي، فبدؤوا بعزف موسيقى الأرغن أثناء العبادة، وتلاوة الصلوات باللغة الإنكليزية، والسماح للرجال والنساء بالعبادة جنباً إلى جنب، والسماح للرجال بالصلاة من دون غطاء الرأس التقليدي، ولم تعد قواعد كشروت (الطعام الحلال) ملزمة.
وكردّ فعل على الانفتاح الإصلاحي، ظهرت حركة اليهود المحافظين، التي سعت إلى تحقيق التوازن بين الإصلاح والنهج الأرثوذكسي، والتزم اليهود المحافظون بطقوس التوراة، لكنهم ظلوا منفتحين على التحديث في الشريعة، لقد حاول اليهود خلق حالة من التوازن بين التخلص من مظاهر الغربة وتحديث التقاليد اليهودية وبين الحفاظ على تميز هويتهم اليهودية، وأصبحت هاتان الحركتان تمثلان غالبية اليهود في الولايات المتحدة.
الازدهار والهيمنة
شكّل القرن التاسع عشر ثورة في نمو المجتمعات اليهودية وتوسعها في الولايات المتحدة، فقد ارتفع عدد اليهود من ألفي نسمة في بداية القرن، ليصل إلى 50 ألف نسمة بحلول منتصفه، ثم أدت هجرة الآلاف من ألمانيا وبولندا والمجر في الخمسينيات من ذاك القرن إلى تضخم حجم الجالية اليهودية إلى ما يقارب ثلاثة أضعاف، ليصل تعدادها إلى 150 ألفاً عام 1860.
وأخذت المجتمعات اليهودية تزدهر مع منتصف القرن التاسع عشر، وكان التوجه الأكبر لليهود نحو الاستثمارات التجارية والصناعية وإنشاء المؤسسات المالية، وقد تمكن بعضهم من تأسيس شركات ومؤسسات مالية عملاقة، وأصبح اليهود من أكثر الأقليات ثراء، واستثمروا ثرواتهم ليصبحوا قوة مؤثرة في الدولة، وانخرطوا في مجالات الطب والعلوم والموسيقى والقانون والفنون، وأصبحوا قوة في هوليوود، وتغلغلوا في السلطة ومراكز النفوذ السياسي.
الانتماء الحزبي والانتخابات
ويتمتع اليهود الأميركيون بقوة مؤثرة في كلا الحزبين الرئيسيين في البلاد الديمقراطي والجمهوري، بما يمتلكونه من عضويات نشطة، وقدرة على التأثير في دوائر النفوذ فيهما، ولكن اليهود الأميركيين -في أغلبهم- لطالما كانوا مؤيدين للحزب الديمقراطي في العمليات الانتخابية، ولا تكاد تخرج الانتخابات الرئاسية المقبلة في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الجاري عن هذا الخط.
وقد أكد استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث في شهر نيسان/أبريل الجاري، ميل الناخبين اليهود إلى التصويت للرئيس الأميركي جو بايدن، وبحسب الاستطلاع فإن اليهود الأميركيين يؤيدون الديمقراطيين بنسبة تبلغ 69%، بينما يؤيد نحو 29% منهم فقط الحزب الجمهوري، ومع ذلك، فإن احتمالية عدم تمكُّن بايدن من الوصول إلى الرئاسة، لا يعني نهاية نفوذهم المتجذر في دوائر السلطة في البلاد.