من الاستعمار الفرنسي إلى "قسد".. أعراف العشائر السورية أقوى من التقسيم

لا يزال قسم كبير من سكان الدول العربية يعيش تحت عُرف القبيلة أو العشيرة، ولا يزال الولاء القبلي في بعض المناطق غالباً على الانتماء الوطني، نظراً لعوامل عديدة فرضتها الطبيعة الجغرافية، ومستوى التعليم، والعادات والتقاليد، والحروب أيضاً.

  • هدفت عشائر سوريا إلى إنهاء حملات التجنيد الإجباري التي تمارسها
    هدفت عشائر سوريا إلى إنهاء حملات التجنيد الإجباري التي تمارسها "قسد" في المنطقة الشرقية من سوريا

خلال الأسابيع الماضية شهدت مناطق واسعة من الجزيرة السورية في الشمال الشرقي من البلاد، وتحديداً في ريفي الحسكة ودير الزور اشتباكات دامية بين "قوات سوريا الديمقراطية" والعشائر العربية، التي رفضت استمرار الانتهاكات التي تمارسها "قسد" بحق العشائر والمدنيين من أبناء المنطقة.

"انتفاضة" العشائر كان هدفها الأساسي إنهاء هيمنة "قسد" على كامل منطقة الجزيرة السورية، وإنعاش المنطقة اقتصادياً في ظل التدهور المعيشي الحاصل، نتيجة النهب المستمر من "قوات سوريا الديمقراطية" للنفط السوري بالتعاون مع قوات الاحتلال الأميركية وتهريبه إلى خارج البلاد، وسرقة عائداته المالية من دون القيام بأيّ مشروع تنموي في المنطقة.

كما هدفت العشائر إلى إنهاء حملات التجنيد الإجباري التي تمارسها "قسد" بحق أبناء العشائر في المنطقة الشرقية من سوريا، حيث تفرض القوات الكردية التجنيد على الشباب العربي ضمن صفوفها، ومن ثمّ تضعهم في الخطوط الأمامية للمعارك التي تشنّها.

نيران المعارك التي أشعلتها تحرّكات العشائر أدت إلى مقتل العشرات من عناصر "قسد"، الأمر الذي أجبرها على الرضوخ لتسوية شاملة في الجزيرة السورية، والرضوخ لمطالب العشائر الكاملة.

عبد الكريم الدندل شيخ عشيرة الحسون، أحد أفرع عشيرة "العكيدات الزبيدية"، يؤكد للميادين نت أن "الانتفاضة العشائرية قامت بشكل عفوي لتحرير الأرض من هيمنة قسد التي نهبت خيرات الشعب وشرّعت الفساد في الجزيرة السورية، وكان لا بدّ من الانتفاضة بوجه الدخلاء الذين أتوا من جبال قنديل في العراق".

ولفت الحسون إلى أن "الانتفاضة الأخيرة لم تكن حرباً بين العرب والكرد، وإنما ثورة بوجه المشروع التقسيمي الذي أرادته قسد في المنطقة، والعشائر لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه المشاريع الخبيثة لتقسيم الوطن السوري".

العشائر العربية في سوريا

لا يزال قسم كبير من سكان الدول العربية يعيش تحت عُرف القبيلة أو العشيرة، ولا يزال الولاء القبلي في بعض المناطق غالباً على الانتماء الوطني، نظراً لعوامل عديدة فرضتها الطبيعة الجغرافية، ومستوى التعليم، والعادات والتقاليد، والحروب أيضاً، ولعلّ القبائل والعشائر العربية في سوريا أكبر مثال على ذلك.

تكتنز المساحة العظمى من سوريا تنوّعاً وغنى اجتماعياً وقبلياً يسود المناطق الشمالية الشرقية والجنوبية والشرقية وبعض الوسطى، ليصبح الانتماء العشائري والقبلي أمراً واقعاً بحكم التاريخ والعادات والتقاليد، كما ثمة أعداد كبيرة من أبناء العشائر والقبائل المترامية الأطراف والمرتبطة خارج الحدود بمثيلاتها في الدول العربية المجاورة والبعيدة.

يبدأ انتشار العشائر العربية في سوريا شرقي الفرات من منطقة جرابلس على الحدود السورية التركية من نهر الفرات غرباً إلى نهر دجلة شرقاً، ومن الحدود السورية التركية شرقي نهر الفرات شمالاً إلى الحدود السورية الأردنية جنوباً، كما تضمّ أرياف حلب وحمص وحماه عشائر عربية لها ارتباط وثيق بتلك المنتشرة في الجزيرة الفراتية وفي منطقة "الشامية" جنوب نهر الفرات.

مهند أحمد الحمود شيخ عشيرة "البكير العكيدية"، يقول للميادين نت إنّ العشائر العربية موجودة قبل الفتح الإسلامي، حيث كانت العشائر الزبيدية تستوطن في اليمن ثم هاجرت إلى الحجاز ومنها إلى سوريا قبل 300 عام، وفي سوريا تحالف قضاء الزبيد مع بعض المكوّنات الموجودة وتم تشكيل قبيلة العكيدات".

ويتابع الحمود أن "العكيدات" شاركت في القرن الماضي في مقاومة الاحتلال الفرنسي، واليوم تشارك أيضاً في مقاومة الاحتلال الأميركي وقوات "قسد" شمال شرق سوريا.

العرف العشائري يحكم!

وقبل البدء بالحديث عن وجود وتاريخ القبائل والعشائر العربية في سوريا، تجب الإشارة إلى أنّ هناك من يخلط بين مصطلحي العشيرة والقبيلة، ولكن يوجد اختلاف جوهري بينهما، فالقبيلة تضم عدة عشائر، وللقبيلة شيخ عام مسؤول عن العشائر المنضوية تحت قبيلته، أما العشيرة التي تنضوي تحت غطاء القبيلة فلها شيخ خاص بها، وتكون أصغر عدداً من القبيلة.

وفي هذا السياق يشير الباحث في التراث السوري أحمد الحسين للميادين نت إلى أن العرف العشائري يُقسّم إلى عدة أقسام منها المدني والتجاري والزراعي، والهدف منه حلّ النزاعات وإصلاح ذات البين، والعرف مشرّع من القانون والشرع.

وعن تقسيمات القبائل والعشائر، يلفت الحسين إلى أن كل عشيرة لها عدة أفخاذ "أقسام"، وكل فخذ يكون مؤلفاً من عدد من العوائل ويرأسه "رئيس الفخذ" الذي يعود إلى الأعلى منه وهو "شيخ العشيرة"، والأعلى منه "أمير القبيلة".

القبائل والعشائر العربية تقدّر وتحترم بعضها مهما اشتدت العداوة فيما بينها، فدائماً يميل وجهاء العشائر إلى السلم والصلح، وفي حال حصلت حادثة قتل يتم حلها مباشرة من قبل شيخ العشيرة حيث يوجد قضاة في العشائر تحل الخلافات، إما بإعطاء هبة من دون أيّ مقابل أو بالديّة، عندها يتم شق الراية البيضاء "الكظاظة" وتنتهي المشكلة، وإما يزوج ابنته لأخ المغدور.

وبالعودة في التاريخ إلى الوراء، فإن أبناء العشائر كانوا يُرجعون انتماءهم العشائري إلى الجد العاشر، وأحياناً إلى الجد العشرين، لكن لاحقاً عمل الاحتلال العثماني في حلب، ودمشق، وحمص، والساحل السوري، على إطلاق الألقاب على العائلات بحسب مهنهم التي يعملون بها مثل "النجار، الصايغ، الجزماتي…"، علماً أن هذا اللقب كان مدروساً من قبل العثمانيين لفصل العائلات عن نسبها العربي الأصيل.

الحديث عن وجود العشائر العربية في الجزيرة السورية لا يمكن النظر إليه على أنه يقتصر على التاريخ الحديث فقط، لأن هذا الوجود في بعض مراحله يوازي الوجود الآرامي والآشوري في المنطقة، بدليل وجود بعض الممالك التي تحمل أسماء عربية، كمملكة أربايا التي توجد آثارها في منطقة عجاجة جنوب الحسكة شمال شرق سوريا، ويعود تاريخها إلى الألف الثانية قبل الميلاد، ومملكة الحضر التي تتموضع على شاطئ الفرات، وتعود إلى الحقبة الزمنية نفسها، وهناك أيضاً منطقة ديار بكر في الجزيرة العليا الموجودة حالياً جنوب تركيا، حيث تنتسب إليها قبائل بكر بن وائل، الموجودة في المنطقة خلال الـ500 عام الأولى من الميلاد.

ما هو أصل القبائل العربية في سوريا؟

في علوم الأنساب تُنسب القبائل ضمن الجزيرة السورية إلى اليمنية الجنوبية، والعدنانية الشمالية التي تفاعلت مع الآراميين واستطاعت أن تؤسس ممالك مختلفة كالأنباط والثموديين واللحيانيين، أما في العهد الإسلامي فقد قسّم المؤرخون الجزيرة السورية إلى ثلاثة أقسام من الناحية الجغرافية والسكانية:

1ـ ديار بكر: وتشمل الجزيرة العليا وتنسب إلى بكر بن وائل.

2ـ ربيعة: تشمل الجزيرة الوسطى وتمتد من منطقة رأس العين بريف الحسكة وحوض الخابور في سوريا إلى الموصل وتكريت في العراق.

3ـ الجزيرة الغربية: وهي ديار مضر وتشمل منطقة الرقة وأورفا وحران.

القبائل الموجودة في الجزيرة السورية تنحدر إما من قبائل عدنانية كقبائل شمر والبكارة وعنزة وغيرها، أو من قبائل جنوبية زبيدية وتشمل الجبور وطيّ والدليم وغيرها، لكنّ قسماً كبيراً منها أصبح يحمل أسماء جديدة، فالقبائل تتغيّر أسماؤها لاعتبارات عديدة، فمثلاً قبيلة تغلب المعروفة لا يوجد عشيرة واضحة تُنسب إليها اليوم، بينما نجد قبيلة جيس الموجودة في مدينة رأس العين بريف الحسكة تنتسب إلى قبيلة قيس التي أخذت دورها وقوّتها في العهد الأموي، وعموماً فإنّ القبائل أخذت مسمّياتها إما لاسم جد فيها أو لحادثة أو واقعة حدثت فيها.

ولعلّ أبرز القبائل العربية في الجزيرة السورية هي:

طيّ: قبيلة كبيرة اتجهت إلى القسم الشمالي الشرقي من الجزيرة السورية، والقبيلة يعود أصلها إلى قبيلة كندة في اليمن وتمتد إلى نجد حائل، وتسمية القبيلة تعود إلى حاتم الطائي المدفون في نجد بالسعودية، لكن ونتيجة الأحوال المعيشية قامت العشائر بالهجرة واستقرت في منطقة الحسكة، والقامشلي، وجزء منها موجود أيضاً في العراق.

البكارة: عشائر كبيرة، ثقلها في دير الزور، ولكن لها وجود في الحسكة، تتألف من عشائر داخلية كانت موجودة في منطقة الدرباسية بريف الحسكة، ومن ثم جبل عبد العزيز، ثم انزاحوا إلى دير الزور شرق سوريا، ويبلغ عدد العشيرة نحو مليون نسمة، ويتزعّمهم حالياً الشيخ فواز البشير، وتسكن العشيرة في محافظات الحسكة ودير الزور وحلب.

العكيدات: من أكبر القبائل العربية في سوريا، ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليوني نسمة، ومنهم موجود في محافظات حمص، وحماه، وحلب، وأكثرهم يعيش على ضفاف نهر الفرات في محافظة دير الزور، وشيخ القبيلة خليل عبود الجدعان الهفل توفي منذ سنوات، ثم استلم أمور القبيلة ابنه الشيخ مصعب خليل العبود الهفل.

الشرابيون: قبيلة كبيرة موجودة في مختلف أجزاء محافظة الحسكة ومدنها وأريافها وتضم مجموعة من العشائر الداخلية ويعدّون من القبائل العدنانية.

شمّر: كانت موجودة في المنطقة في مرحلة لاحقة قياساً بالجبور وطيّ، وأغلب مجيئها من جنوب العراق.

الجبور: واحدة من أشهر القبائل العربية في سوريا، وتُعدّ بفروعها وتحالفاتها أكبر القبائل في الجزيرة السورية، واستوطنت حوض الخابور والفرات.

"قسد" ومشروع تقسيم القبائل والعشائر

كانت هذه القبائل البدوية في العصر العثماني تذهب باتجاه البراري هرباً من العثمانيين وحملات سوق التجنيد الخاصة بهم، لكن في أواخر الفترة العثمانية بالقرن الماضي بدأت القبائل تتوطن في مواضعها الحالية، فقبيلة شمّر استقرت في منطقة اليعربية بريف الحسكة، وطيّ في ريف القامشلي، والجبور في حوض الخابور، وعدوان وحرب في رأس العين وريف القامشلي.

العشائر في الجزيرة السورية كانت لها مواقف مشرّفة تجاه الاستعمار الفرنسي، حيث خاضت العشائر معارك عديدة ضد القوات الفرنسية وألحقت بها خسائر كبيرة، وكانت هذه المعارك جزءاً من الثورة السورية الكُبرى التي شملت مختلف المناطق السورية، وانتهت بتحقيق الاستقلال الكامل عن الاستعمار الفرنسي.

لكن، منذ العام 2014 سيطرت "قوات سوريا الديمقراطية" على أغلب المناطق التي توجد فيها القبائل والعشائر العربية شمال وشمال شرق سوريا، وتحديداً في الرقة ودير الزور والحسكة وريف حلب الشمالي الشرقي، وفي قلبه مدينة منبج الواقعة غربي نهر الفرات.

وطرأ تبدّل عميق على بنية القبائل والعشائر العربية، حيث عمل التحالف الدولي -الذي احتل مناطق من شرق الفرات- على تفريق القبائل والعشائر وتمزيقها وتشتيت قوتها، وخاصّة التي تنتشر على طرفي نهر الفرات، فالقوات الأميركية سعت إلى تقسيم كل عشيرة إلى عشيرتين، الأولى تكون شرق نهر الفرات والثانية غربه، وذلك بهدف إضعاف العشائر وبثّ الخلاف بين أبنائها.

وعن موقف العشائر خلال الأزمة السورية يؤكد الباحث أحمد الحسين للميادين نت أن القبائل والعشائر العربية خلال سنوات الأزمة كان لها دور إيجابي إلى جانب الجيش السوري في مواجهة الجماعات الإرهابية، حيث تطوّع الآلاف من أبناء العشائر للقتال تحت راية الجيش السوري في حربه ضد الإرهاب.

اقرأ أيضاً: عقد الراية.. المحاكم الشعبية تحسم خلافات أبناء العشائر في سوريا