مضائف عاشوراء جنوبي لبنان.. تكافل اجتماعي ومؤانسة للنازحين
بسبب الحرب المستمرة على جنوب لبنان، ساهمت المضائف العاشورائية في تخفيف بعض العبء عن النازحين، من ناحية تأمين وجبات غذائية يومية لهم، وأيضاً مشاركتهم في هذه الطقوس التي كانوا يمارسونها في قراهم.
لم يكن مشهد هذا اليوم عادياً، ولم تكن زحمته للأسباب نفسها التي تعيق الحركة كل يوم. كان يوماً سيترك في ذاكرتي أسئلة عدة عن العطاء والبذل، وكيف للتاريخ أن يحتفظ في خزانته أحداثاً لا تموت ولا تبهت. تطلّ مناسبة عاشوراء براياتها السوداء وطقوس العزاء، كأن ما حدث كان بالأمس، وليس قبل أكثر من 1400 عام. وكأنّ أيضاً كل هذا البذل الجميل، الموزع على الطرقات وفي خيام المضيفين، نوع من التعويض. كل هذه الأفكار جاءت إلى رأسي حين هرع إلى سيارتي شاب ليقدّم إليّ طبقاً من المضافات الحسينية الموزعة على جنابات الطريق. كنت أراقب وجوه الناس المستبشرين بصنعهم، والذي يشعل في روحهم حرارة لا تبرد ولا تنطفئ.
تضع فتاة صغيرة زجاجات الماء البارد على طاولة أمامها بالإضافة إلى صحن كبير يحتوي على التمر. فيما اكتفى شاب بالماء، بينما تجمع شبان قرب محطة الوقود، حول طناجر عالية لإعداد وجبات كبيرة يوزعونها على المارين. تنتشر هذه المشاهد في شوارع عدد من قرى جنوب لبنان في ذكرى عاشوراء، حيث تتوزع المضافات العاشورائية بجوها الاجتماعي والروحي.
يقف علاء ورفاقه في مضيف في بلدة الصرفند جنوب لبنان يحضّرون الطعام، والتي يبادرون كل عام لإقامتها من مالهم الخاص من دون أي دعم خارجي، معبّرين عن رغبة عاطفية في إقامة هذه الطقوس بمناسبة عاشوراء، بالإضافة إلى مساعدة الفقراء وتقديم الطعام لهم طوال هذه المدّة مجاناً.
يُعدّ توزيع الطعام وإعداده في هذه المناسبة هو عادة قديمة في الجنوب، حيث كان الناس يطبخون القمح مع الدجاج، أو اللحم، أو ما يصطلح عليه بالهريسة، وهي الأكثر شهرة وارتباطاً بهذه المناسبة، وينتظرها الناس من عام لعام، فيوزعونها على الجيران أو الأهل، بالإضافة إلى إعداد بعض الحلويات الخاصة بالمناسبة، مثل "البسكويت والراحة"، و"كعك العباس".
ومع ازدياد الرحلات الدينية إلى العراق، انتقلت عادات عراقية عاشورائية إلى لبنان، وشكل المضافات وهيأتها كان من بين هذه العادات، حيث توضع طاولات مغطاة بالقماش الأسود، علامة على الحزن والعزاء، ولافتات لذكرى عاشوراء والإمام الحسين. ويرافق العمل في هذه المضائف ندبيّات لرواديد لبنانيين أو عراقيين عبر مكبرات الصوت. فيقف المارة بسياراتهم أو الماشين على الأقدام ويتناولون ما حُضّر من أجلهم على هذه الموائد. وقد يتكرر المشهد في بقع جغرافية متقاربة، حيث يستوقف المارة أكثر من مضيف، فيعود السالكين من هذه الطرقات وجعبتهم مليئة بما فاضت عليهم المضائف.
ويعبّر الناس عن دوافع كثيرة لإقامة هذه المضائف، أبرزها أنهم يرغبون بإحياء مراسم العزاء من خلال تقديم الطعام "على حبّ الحسين"، وأيضاً السبب الثاني هو من أجل التكافل الاجتماعي في هذه الفترة، فيستفيد الناس جميعهم من خير المضائف، خصوصاً الفقراء. وتنطلق دوافع عدد من القيّمين على هذه المضائف من التعاليم الدينية والقرآنية الحاثّة على المساعدة والبذل ومساعدة المساكين. وعادة ما تقام هذه المضائف عبر مجموعات شبابية بمبادرات فردية، أو حتى في مطابخ البيوت، حيث تشارك الأمهات في إعداد الطعام للأهل والجيران.
وبسبب الحرب المستمرة على جنوب لبنان، فقد ساهمت هذه المضائف في تخفيف بعض العبء عن النازحين، من ناحية تأمين وجبات غذائية يومية لهم، وأيضاً مشاركتهم في هذه الطقوس التي كانوا يمارسونها في قراهم، ما يبدد شعورهم بالغربة.