مرقد الشيخ مسعود في الأنبار.. الأثر الروحي والهوية الشعبية
لمقام الشيخ مسعود هُوية شعبية، إضافةً إلى رمزيته الدينية، الأمر الذي يجعل أهل الأنبار يدافعون عن وجوده، فهو جزء من تاريخهم ومن ذاكرتهم الروحية، وجزء من هُويتهم المتسامحة أيضاً.
من مسافةٍ بعيدةٍ تلتمعُ قبةٌ خضراء لضريح وليٍّ يعرفه أهل الأنبار حقّ المعرفة، يزورونه ويتوافدون عليه في الشدائد وفي الأفراح، يتبركون به ويصلّون فيه. إنه مرقد الشيخ مسعود الذي يعتلي تلة ناتئة في منطقة حصيبة الشرقية، غربي مدينة الفلوجة، كبرى مدن محافظة الأنبار .
هنا، دفنَ الشيخ مسعود، حفيد الأمام موسى الكاظم (عليه السلام)، وشقيقته العلوية الشهيدة سعدة، لكن أهل المدينة يعرفون المرقد باسم الشيخ "مسعود".
المرقد محاطٌ بصحراء وتلال منطقة الحبانية جنوباً، وبنهر الفرات شمالاً، في هذه البقعة التي تقع على الطريق القديم الذي يربط مدينتي الفلوجة والرمادي.
يقصد أبناء المنطقة الشيخ مسعود باستمرار، ويدعون الله بجاه الشيخ وحرمته من أجل استجابة دعواتهم، وتحقيق أمنياتهم، ولهم مع المقام ذكرياتٌ لا تنسى.
مَن هوَ الشيخ مسعود؟
تحمل كلمة الشيخ الدلالة ذاتها التي تحملها كلمة السيّد، وهما لقبان يشيران إلى أن الشخص ذو كرامات وقدر وجاه، وهذا ما يحفظه أهل المدينة للشيخ مسعود، فيتحدثون على الدوامِ عن كراماته، ويثنون على فضله.
ما إن تدخل مرقد الشيخ حتى تصادفك لافتة ورقيةٌ مشعةٌ كتبَ عليها نسبه لتعريف الزائرِ إليه، فهو السيد مسعود بن السيد جمال الدين بن السيد سليمان بن السيد صلاح الدين بن السيد موسى بن السيد علي بن السيد أبو الفضل يحيى بن السيد حسن بن السيد حسين بن السيد زيد الناري بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام بن الإمام محمد الباقر عليه السلام بن الإمام زين العابدين عليه السلام بن الإمام الحسين عليه السلام بن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام بن فاطمة الزهراء عليها السلام ابنة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويقول المؤرخون إن أثر الشيخ موجود هنا منذ أواخر العصر العباسي، إذ ضعفت الدولة ودبَّ الفساد والفقر والعوز والفتن، فكان عصر ثورات وانتفاضات ومعارك. استشهدت العلوية الطاهرة الشيخة سعدة والشيخ مسعود في إحدى هذه المعارك، ودفنا في مكان استشهادهما. ومع مرور الوقت، صار مدفنهما ضريحاً تزوره الناس للتبرك والصلاة والدعاء، ولا يقتصر زواره على مدينة الأنبار، إنما يقصده المؤمنون من مجمل محافظات العراق، ومن بلاد الشام أحياناً.
يصرّح للميادين نت أحد أهالي الأنبار، وهو الأستاذ فقار فاضل، فيقول: "مقام الشيخ مسعود لا يقتصر على أهالي الأنبار فقط، إذ هناك كثير من الزوار من جنوب العراق ووسطه يأتون إلى هذا المقام، ولا سيما أن نسب هذا المقام يعود إلى الإمام الكاظم، فأغلب شيعة العراق يذهبون إلى الأنبار من أجل زيارته، وأيضاً كونه قريباً من بغداد، فما إن يتموا زيارة الإمام موسى ابن جعفر حتى يزوروا الشيخ مسعود".
ويضيف فاضل (37 عاماً): "هذا المرقد يعدّ من المعالم المهمة في محافظة الأنبار، ولكن ثمة إهمال من ناحية الخدمات وتوفير ساحة خاصة للسيارات وتوسيع المكان، كما يفتقر إلى أبسط المرافق الصحية والخدمية، لكن، عموماً، يعدّ مقام الشيخ مسعود نقطة جذب واستقطاب لكل الزائرين من مختلف العراق، وفي فترات سابقة كان يقصد هذا المكان زائرون من بلاد أخرى".
الشيخ مسعود يقاومُ الإرهاب
خرب عدد من المراقد والمعالم الدينية والحضارية في العراق، إثر هجمات عدوانية نفّذها إرهابيون وتكفيريون في الفترة الطائفية المظلمة التي شهدها العراق عقب احتلاله. وقد تعرض مرقد الشيخ مسعود لخمس هجمات إرهابية كانت أولاها سنة 2003. وقد ألحق الهجوم الأول أضراراً بالمقام، وتمّ نسفه في هجوم آخر لتنهار قبته الخضراء. وبعد ذلك فُخخَ بكامله وفجّر عن بعد عام 2008، وآخرها كان في العام نفسه عندما قصفته قوات الاحتلال الأميركي بقذيفة مدفع.
دان أهل الأنبار هذه الهجمات وطالبوا بحماية المرقد وإعادته مرة أخرى، وهو ما حصل، فللشيخ مكانة أثيرة لديهم، إضافة إلى أهمية المقام كمعلمٍ عريقٍ من معالم الأنبار، ولدى استطلاعنا في الميادين نت حدثنا المواطن عبد القادر عبد الله (42 عاماً) عمّا يمثله هذا المقام: "لوجود المقامات أهمية كبيرة وخاصة على المستوى الروحي، ونحن كمجتمعات عربية لنا اهتمامنا بوجود المقامات والأضرحة والمراقد وحتى المساجد، ونجد أنفسنا من وقت لآخر زائرين بغية الدعاء والترويح النفسي والحصول على بعض السكينة والهدوء، وربما التوازن، أذكر جيداً جميع المرات التي ذهبت فيها مع عائلتي إلى مرقد الشيخ مسعود، فقد ترك المكان في روحي أثراً عميقاً".
وأكد عبد الله الذي يديرُ محلاً لبيع المواد الغذائية في المدينة: "من هذا المنطلق، كنت أدين الهجمات المتشددة التكفيرية، وأجد من الضروري حماية هذا المرقد بصورة خاصة ومكثفة".
مقام الشيخ مسعود كهويةٍ
بقي مرقد الشيخ مسعود شاخصاً وقريباً من قلوب أهل الأنبار وأرواحهم، وها هو بعد كل ذلك التدمير الإرهابي يطلُّ من تلّته كما لو أنه يحرس المدينة، ولعله يبدو، إضافة إلى مكانته المقدسة، شاهداً تاريخياً على دموية الإرهاب الديني الذي لم يستطع نزع هوية المدينة المتسامحة وتشويهها، وكذلك يشكّل المرقد دليلاً على التعايش السلمي ووحدة العراقيين، وهذا ما يقوله الأستاذ يوسف الكبيسي، وهو أحد زوار المقام، وقد عاصر كل ما تعرّض له.
ويتابع: "يمثّلُ المقام أو مرقد الشيخ مسعود واحداً من أهم الأمثلة على التعايش السلمي في الأنبار، إذ يأتي الزوار من طوائف ومدن مختلفة للتبارك به، وهو واجهة لجذب السياحة الدينية إلى الأنبار ونقل صورة جميلة ومختلفة عن مجتمعها المتنوع عكس الصورة النمطية التي يتناقلها الإعلام".
ويختمُ الكبيسي قائلاً: "لي ذكريات مع المقام منذ الطفولة، فحين كُنا نمرُّ بمدينة الحبانية يشرح لنا من يُرافقنا قصة الشيخ مسعود الرجل الصالح الذي يعود نسبه إلى الإمام موسى الكاظم عليه السلام. وعلى الرغم من بساطة المكان، فإنه يوفّر الطمأنينة الروحية والأمان لزائريه. وأنا أعتقد أن هدم الأماكن الدينية والتاريخية هو تصرف إرهابي بشع وشنيع، وليس إلا محاولة لطمس الهويات وخلق فتور وتفرقة بين المجتمعات والطوائف".
لمقام الشيخ مسعود هوية شعبية، إضافةً إلى رمزيته الدينية، الأمر الذي يجعل أهل الأنبار يدافعون عن وجوده، فهو جزء من تاريخهم ومن ذاكرتهم الروحية وهويتهم المتسامحة أيضاً.