مخيمات الضفة الغربية بعد الـ7 من أكتوبر... تأثيرها في المواجهة مع الاحتلال
"مخيمات على طريق القدس"، هكذا يمكن تسمية مخيمات الضفة الغربية بعد الـ7 من أكتوبر، والتي تعيش سيرورة نضال ومقاومة متراكمين ومستمرين ومتجددين، إذ إنّ أدواتهما تتباين مع تباين معطيات المرحلة التي تمرّ فيها القضية الفلسطينية، وهي تكتسب صفة الولادة.
تؤدي المخيّمات، بصفتها حيّزاً جغرافيّا ذا طابع سياسي خاص في السياق الاستعماري في فلسطين المحتلة، دوراً مركزياً في مقاومة الاحتلال، كونها وُجدت نتيجةً مباشرةً لعملية تهجير الفلسطينيين خلال نكبة عام 1948 ونكسة عام 1967. وحكايتها لم تبدأ بعد السابع من أكتوبر 2023، لكنها سيرورة نضال ومقاومة متراكمين ومستمرين ومتجددين، إذ إنَّ أدواتها تتباين مع تباين معطيات المرحلة التي تمرّ فيها القضية الفلسطينية، وهي تكتسب صفة الولادة، أي أنها ولّادة أشكال جديدة من الصراع والمقاومة، يبتكرها أصحاب اللجوء، أي أهل المخيم.
يعيش أكثر من 2.3 مليون فلسطيني معاناة اللجوء في أرض بلادهم. ففي الضفة الغربية يقطن أكثر من ربع اللاجئين في مخيمات رسمية وغير رسمية. ويشهد 32 مخيماً في الضفة الغربية وقطاع غزة على النكبة الفلسطينية والتهجير القسري. تمتد الضفة الغربية فوق مساحة من الأرض تبلغ 5660 كيلومتراً مربعاً، ويعيش فيها نحو 3.25 ملايين نسمة (معطيات المركز الفلسطيني للإحصاء منتصف عام 2023)، منهم 828.328 لاجئاً مسجلاً لدى وكالة "الأونروا"، فضلاً عن غير المسجلين.
يشكل اللاجئون نسبة 26% من سكان الضفة الغربية، ويعيش ربعهم في 19 مخيماً رسمياً، في حين يعيش الآخرون في 5 مخيمات غير معترف بها رسمياً في مدن الضفة الغربية وقراها (مؤشرات مركز الإحصاء الفلسطيني عام 2018)، وتبلغ نسبة من أعمارهم أقل من 24 عاماً نحو 60% من عدد السكان الكلي.
ويقع في الضفة الغربية أكبر عدد من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المعترف بها في أقاليم الأونروا الخمسة (الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة).
تعاني مخيمات الضفة الغربية بنى تحتية متهالكة، وشبكات صحية مدمَّرة، ونقصاً دائماً في المياه. ويعيش سكانها اكتظاظاً هائلاً في مبانٍ متراصّة، تفتقر إلى التهوية والخدمات الأساسية. ويكابدون ظروفاً معيشية صعبة، وسط نسبة مرتفعة من البطالة والفقر. وتزيد معاناة مخيمات الضفة الغربية مع الاجتياحات المتكررة لها من جانب قوات الاحتلال، والتدمير المستمر للمنازل والبنى التحتية، والإغلاقات والتضييق عند الحواجز التي تصلها بمراكز المدن. ويترافق كل ما سبق ذكره مع حالة صمود أُسطورية يعبّر عنها أهل هذه المخيمات.
تعيش المخيمات نكبة مستمرة ودائمة، فلا بيت فيها يخلو من وجود شهيد، جريح أو أسير. وبالتالي، يحمل كل بيت قصة تختصر القضية، وتحمل قلوب أهله معاناتها وجراحها، وتتناقل ألسنتهم الرواية جيلاً بعد جيل، ليبقى حلمهم في العودة إلى أراضيهم المسلوبة هدفَهم الأول والأخير. وفي سبيل هذا الهدف يُسخّر الصغار والكبار كل تفاصيل حياتهم وأرواحهم، فأذهانهم لم تعتَد مشهد اللجوء، ولم تقبل المخيم خياراً بديلاً من العيش، مهما طال زمن اللجوء وعظم ثمن التضحية.
كيف عايشت المخيمات السابع من أكتوبر؟
تُعَدّ العملية العسكرية، التي نفذها الجيش الإسرائيلي في جنين، الأكثر حصداً للأرواح في الضفة الغربية منذ عام 2005، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة. وعادة يكون مخيم جنين هو الساحة التي تشهد أعنف المواجهات بين قوات الاحتلال الإسرائيلية ومسلحي فصائل المقاومة الفلسطينية. ويرتبط اسم مخيم جنين بعدوان إسرائيلي دمّر أجزاءً كبيرة منه، واستشهِد نتيجته 52 شخصاً، أغلبيتهم من المدنيين، عام 2002، ضمن عملية "الدرع الواقي"، التي اجتاح فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي مدن الضفة الغربية، بعد هجوم على فندق في مستوطنة "نتانيا".
أصل الحكاية في مخيم جنين
شكّلت عملية "سيف القدس"، وما تبعها من انتزاع ستة أسرى فلسطينيين حريتهم من سجن جلبوع الإسرائيلي، في السادس من أيلول/سبتمبر 2021، نقطة تحول مفصلية في مخيم جنين، وخصوصاً أن بين الأسرى المُحرِّرين أنفسَهم من السجن مَن كانوا من المقاومين السابقين المعروفين، والذين نشطوا في المخيم ومدينة جنين، مثل زكريا الزبيدي، ومحمود العارضة. ومنذ ذلك الوقت، بدأت تتشكل بؤر مقاومة مسلحة ومكوّنة من جميع الفصائل الفلسطينية، تُطلق على نفسها اسم "كتائب"، وتُعَدّ الدرع المنيعة والحامية للمخيم، ولا تأبه بعوامل الخذلان، مثل التطبيع واعتقالات السلطة واغتيالات الاحتلال. وعليه، تُعَدّ المقاومة في مخيم جنين فكرة ممتدة أثّرت وساهمت في تأسيس حالات مشابهة وناجحة في مخيم نور شمس في مدينة طولكرم، ونابلس (عرين الأسود)، والمقاومة في مخيم عقبة جبر في أريحا؛ أي أن مخيم جنين كان الملهم لسائر مخيمات الضفة الغربية، والأثر الذي زرعه باق وممتد حتى هذه اللحظة.
تواجه المقاومة الفلسطينية في مخيم جنين حرب استنزاف يشنها الاحتلال الإسرائيلي منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بالتزامن مع مجازر الإبادة التي يرتكبها في قطاع غزة. ويشهد المخيم، الواقع في مدينة جنين شمالي الضفة الغربية، أشكالاً جديدة وواسعة من اعتداءات جيش الاحتلال والاغتيالات منذ أحداث طوفان الأقصى، في محاولة لتقويض حالة المقاومة ومنع انتشارها إلى سائر أنحاء الضفة، بينما تشهد أزقة المخيم وحشية كبيرة يحاول الاحتلال انتهاجها في الآونة الأخيرة ضد كل ما يرمز إلى المقاومة والشهداء والقضية الفلسطينية، إذ دمّرت جرّافات الاحتلال نصب الشهداء التذكارية، مثل نصب الشهيد جميل العموري، وشرارة الكتيبة الأولى، وفوق دوار "العودة" في المخيم، ونصب الشهيد يزن أبو طبيخ، والشهيدة دلال المغربي، والشهيد إياد الزرعيني. كما قصف الاحتلال المساجد وفجّر المحالّ التجارية ودمّر السيارات، وشلّ حياة سكان المخيم الاجتماعية. تُضاف إلى ذلك الاعتقالات المكثفة لعناصر بؤر المقاومة.
اجتياح طولكرم 2023–2024
تأسس مخيم طولكرم للاجئين في عام 1950 فوق أرض مساحتها 0,18 كيلومتر مربع، ضمن حدود بلدية طولكرم، عند الحافة الغربية للضفة الغربية. وهو ثاني أكبر مخيم للاجئين في الضفة الغربية. وينتمي اللاجئون الأصليون في المخيم إلى القرى والمدن التابعة لمناطق حيفا ويافا وقيسارية. وأصبح المخيم تحت سيطرة السلطة الفلسطينية في عام 1995. ومثل سائر مخيمات الضفة الغربية، تأسس المخيم فوق قطعة من الأرض، استأجرتها الأونروا من الحكومة الأردنية.
تأثر هذا المخيم بحالة المقاومة التي بدأت في مخيم جنين، فأنتج بؤرة المقاومة الخاصة به، ليصبح عنواناً رئيساً للاشتباك مع قوات الاحتلال. وعليه، جرت سلسلة اجتياحات وعمليات عسكرية إسرائيلية واسعة مُستمرة، جرى خلالها اجتياح مدينة طولكرم ومخيمي المدينة: مخيم طولكرم ومخيم نور شمس، في عامي 2023 و2024، إذ تشكل المدينة معقلاً لما يُعرَف بكتيبة طولكرم. وجرت الاجتياحات للمدينة قبل معركة طوفان الأقصى المندلعة منذ 7 أكتوبر 2023، وفي أثنائها.
كان أبرز اجتياح لطولكرم هو اجتياح الـ19 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي استمر نحو 30 ساعة متواصلة، وخلّف 13 شهيداً فلسطينياً وأكثر من 30 جريحاً ودماراً كبيراً في المنازل والشوارع والبنية التحتية. كما كان اجتياح 3 كانون الثاني/يناير 2024، والذي استمر نحو 40 ساعة متواصلة، هو الاجتياح الأكبر والأوسع والأطول والأكثر تدميراً منذ الانتفاضة الثانية، في حين كان اجتياح 17 كانون الثاني/يناير 2024 من أكبر وأعنف وأطول الاجتياحات أيضاً منذ الانتفاضة الثانية، واستمر نحو 45 ساعة متواصلة، مخلِّفاً كثيراً من الشهداء ودماراً هائلاً في البنية التحتية للمخيم.
في أثناء تجول الميادين نت في شوارع مخيم طولكرم، التقينا حالات تعبّر عن قصص كثيرة تجسد حالة اللجوء الفلسطيني وتعبر عنه، أبرزها قصة محمد وفاطمة حامد، مهجرين من قرية قاقون خلال نكبة 1948، انتقلا إلى العيش في بيت صغير في مخيم طولكرم عام 1949. تعرّض هذا للبيت للاعتداء المباشر خلال الاقتحامات المستمرة للمخيم، وهما يعيشان اليوم في نصف بيت، ونصف جدران محطمة، يخترق برد الشتاء أطراف جسديهما كأنهما، بعد مرور كل هذه الأعوام، لا يزالان يعيشان في العراء في انتظار العودة إلى أرضهم المسلوبة.
تقول الحاجة فاطمة حامد (أم واصف) للميادين نت: "أنا طلعت من قاقون وعمري 5 أعوام وزوجي عمره 8 أعوام. وخلال حرب الأيام الستة، تم تهجيرنا مرة أخرى. والآن، نحن نعايش واقعاً أصعب من الحالتين، لكننا نحمد الله دائماً. نجلس دائماً أنا والحاج عند طلوع الفجر نستذكر ماذا حدث بنا ونبكي، أحدنا مع الآخر".
وعلى مقربة من بيت حامد، وقفنا عند بيت عائلة الشهيد جهاد شحادة، وهو قائد كتائب شهداء الأقصى في مخيم طولكرم، الذي استُشهد بتاريخ السادس من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بعد عمليات اشتباك متتالية مع قوات الاحتلال ومطاردة استمرت مدة عام ونصف عام، لكن أثره المتجسد في فكرته النبيلة لا يزال حيّاً في أذهان الشبان والأطفال في المخيم وقلوبهم، كما قالت والدته للميادين نت.
إلى جانب بيت الشهيد شحادة، يوجد بيت عائلة الشهيد رامي الشوملي والأسيرين شقيقيه الموجودين في سجون الاحتلال، بعد السابع من أكتوبر، تقول والدة الشهيد رامي إنّ ابنها استشهد "مقبلاً غير مدبر"، وأن أهل المخيم يشهدون غيابه، إذ إن وجوده إلى جانب رفقائه في النضال "كان بمثابة السدّ المنيع للمخيم أمام جنود الاحتلال".
وبينما كنا نسير في أزقة المخيم المليئة بالدمار الواضح للعين، التقينا الفتاة دالية حدايدة، وهي ممرضة ومسعفة متطوعة في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وهي شقيقة الشهيد محمود حدايدة، الذي استشهد بعد أحداث السابع من أكتوبر. توجد دالية بصورة ميدانية، تسعف الجرحى وتنقذ ما تبقى من حياة يحاول الاحتلال سلبها من أهل المخيم، ممثلةً بذلك الدور الأسمى للمرأة الفلسطينية المقاومة والمعطاءة.
مخيما قلنديا والأمعري
ومن شمال الضفة الغربية، إلى شمال القدس المحتلة، تأسس مخيم قلنديا للاجئين في عام 1949 فوق أرض مساحتها 0,35 كيلومتر مربع، تعود أصول اللاجئين في المخيم إلى 52 قرية تابعة لمناطق اللد والرملة وحيفا والقدس والخليل. وفي عام 1967، وصل عدد السكان في المخيم إلى 4800 نسمة، حسب ما أعلن عنه الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وقد تزايد العدد بعد ذلك ليصل إلى ما يقارب 25 ألف لاجئ سنة 2023، وهو ما يعادل نسبة 5.8% من لاجئي الضفة الغربية.
وكسائر المخيمات الفلسطينية يواجه مخيم قلنديا الاحتلال بكل ما امتلك من وسائل مقاومة، ويقدم في سبيل تحرير الأرض والعودة الغالي والنفيس فمنذ عام 1967 وحتى عام 2022 قدم المخيم ما يربو على 90 شهيداً، وبعد معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين أول عام 2023 ازدادت وتيرة الاقتحام من قبل قوات الاحتلال وتمددت مساحة ارتقاء الشهداء والجرحى في المخيم، ففي الرابع من كانون أول/ديسمبر عام 2023 تعرض المخيم لاقتحام أدى إلى إصابة 15 مواطناً 11 منهم بحالة خطرة.
لا يختلف المشهد في مخيم الأمعري، وهو الواقع في جنوب مدينة البيرة وسط الضفة الغربية، والذي تأسس من قبل الصليب الأحمر عام 1949، عن المشهد الموجود في مخيم قلنديا، اقتحامات مستمرة واغتيالات واعتقالات في صفوف الشباب والأطفال، لكن الصمود هو الطريق الذي يختاره أهله.
مخيم عقبة جبر.. حارس الأغوار الفلسطينية
على مدار أكثر من 70 عاماً، يقارع سكان مخيم عقبة جبر قوات الاحتلال، ويخوضون ضده معارك ضارية منذ نشأته الأولى عام 1948، ومحاولات التهجير الثانية التي تعرضوا لها خلال عام 1967. وكان لهم محطات مشرّفة، سواء خلال انتفاضة الحجارة عام 1978، أو انتفاضة الأقصى عام 2000، أو خلال الهبة الحالية لثوار الضفة، وما عُرف باسم خلية عقبة جبر، التي أربكت الاحتلال من دون العثور على أي من مقاوميها.
يُعَدّ مخيم عقبة جبر هو مخيم اللاجئين الأكبر في الضفة الغربية المحتلة، وأدّى دوراً مهماً في مقاومة الاحتلال والمحافظة على الهوية الفلسطينية وصفة المخيم على رغم كل محاولات التمدن. يتميز مخيم عقبة جبر بحالة التكاتف التي تجمع السكان، إذ إنهم يقفون في وجه الاحتلال رَجلاً واحداً، ولا يهابون جرائمه. وتجسدت حالة التكاتف خلال الحصار الذي فرض على المخيم في شهر شباط/فبراير من عام 2023، إذ إن الأهالي والمقاومين أفشلوا مخطط الاحتلال اعتقالَ عناصر خلية عقبة جبر مؤخراً، ولا يزال المشهد مستمراً منذ ذلك التاريخ، وصولاً إلى أحداث السابع من أكتوبر حتى يومنا هذا.
الأونروا تواجه تهديداً وجوديّاً
تواجه الأونروا تحدياً وجوديّاً بالتزامن مع حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة، إذ أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، في الـ27 من كانون الثاني/يناير 2024، تعليق دعمها المالي للأونروا، في مشهد قديم يتجدد، لكنه جاء هذه المرة وسط تحذيرات الوكالة - وبرنامج الغذاء العالمي - من وقوع مجاعة، بعد أن انقطعت المساعدات عن مئات الآلاف من السكان المحاصَرين شمالي القطاع المحاصر، الأمر الذي جعل بعض السكان يضطرون إلى طحن علف الحيوانات كي يصنعوا منه خبزاً. كما اتخذت 9 دول أخرى قرارات مماثلة، بناءً على ادعاء الاحتلال الإسرائيلي أن موظفين يعملون في الوكالة كانوا ضالعين في عملية طوفان الأقصى، التي أطلقتها كتائب عز الدين القسام - الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية، حماس - في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
يأتي هذا التهديد وسط محاولات الاحتلال الإسرائيلي الدائمة القضاءَ على المخيمات الفلسطينية، نظراً إلى قدرة هذه المخيمات على إثبات نجاعتها في التأثير في إشعال وقود الثورة على الرغم من كل محاولات الاحتلال إخمادَها في عموم فلسطين المحتلة.