محاولة واحدة كل 6 ساعات.. ما الذي يدفع اللبنانيين إلى الانتحار؟
الانتحار أو قتل النفس، ردّ فعل مأساوي لمواقف حياتية مسبّبة للضغوط، ما فتئ يثير الصدمة ويتصدّر النقاش في المجتمع اللبناني، إذ يستفيق اللبنانيون على فاجعة من هذا النوع بين الفينية والأخرى.
إلى جانب الطريق في محلة حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية عثر على جثة الشاب علي فرحات. بعد المتابعة والبحث تبيّن أن الشاب رمى بنفسه من على سطح مبنى مجاور، أي أنّه مات منتحراً. هذا خبر تردّد في وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، لكنه ليس الأول من نوعه، فأن يقرّر شخص ما إنهاء حياته بطريقة فادحة كهذه أو كغيرها صار أمراً ملحوظاً في لبنان.
الانتحار أو قتل النفس، ردّ فعل مأساوي لمواقف حياتية مسبّبة للضغوط، ما فتئ يثير الصدمة ويتصدّر النقاش في المجتمع اللبناني، إذ يستفيق اللبنانيون على فاجعة من هذا النوع بين الفينية والأخرى، حتى أنّ حالات الانتحار تصاعدت في لبنان بشكل غير مسبوق في الآونة الأخيرة، إذ يحاول شخص كل ست ساعات الانتحار، وفق آخر الإحصائيات المحلية المنشورة، كلّ ذلك يتزامن مع أزمة اجتماعية واقتصادية خانقة لا تزال تخيّم على اللبنانيين.
إذاً، هل هو شبح الأزمة مجدّداً؟ الأزمة التي أدخلت لبنان في نفق مظلم في ظل غياب أفق للحل حتى الآن، فهل باتت سبباً في ارتفاع حالات الانتحار في لبنان؟ ولكن ماذا أيضاً عن أسباب قد لا تتمّ إثارتها في ظل الأوضاع المتأزمة التي تقضّ مضاجع المواطنين؟
بروايات الأقارب: الانتحار ندبة لا تزول
"أصعب شي سمعتو بحياتي كلمة الله يرحمو. لهلق عم عيش عذاب ما بينوصف وبنتي وابني محروق قلبهن، بس ما عندي خيار إلا كون قوية كرمالهن".
بهذه الكلمات تختصر غنوى الندبة التي تركها غياب زوجها في حياتها. محمد إبراهيم انتحر في آذار/مارس من هذا العام في بلدته الوردانية، وذلك بإطلاق النار على نفسه من بندقية صيد.
ثلاثة أشهر مضت على انتحار إبراهيم، لم تستطع غنوى تخطّي ما حصل، إذ لا تزال غير قادرة على تصديق رحيله حتى اليوم.
تقول غنوى إن الأزمة الاقتصادية أثّرت بشكل أو بآخر على زوجها، لكنها لم تكن السبب المباشر لانتحاره.
تشرح غنوى كيف دخل الراحل في حالة إدمان شديد على المراهنات المالية، خصوصاً بعد تأزم الأوضاع المعيشية في البلاد. "بدأ الأمر صدفة لكنه تطوّر خلال سنتين إلى حالة من الإدمان الشديد، وعلى الرغم من كثرة الخسارات، خسر زوجي الكثير من المال، وراكم الكثير من الديون، ولم يقدر على مواجهة أي أحد بذلك، فقرّر إنهاء حياته"، تقول غنوى.
وتضيف بحسرة: "لقد حاولت مراراً منعه وإعادته إلى حياته الطبيعية من دون جدوى، وكنت على يقين أن هناك مشكلة نفسية ناتجة عن صدمات متعددة مرّ بها، إنما الأزمة جعلتها تطفو إلى السطح مجدّداً".
لا تخفي غنوى أنها حاربت بشكل فرديّ لمنع زوجها من الغرق في عالم الإدمان، مشيرة إلى أن زوجها لمّح لها مراراً إلى فكرة الانتحار والموت، متحدثاً عن الشباب الذين أقدموا على إنهاء حياتهم بعيد الأزمة، بيد أنها عمدت إلى عدم موافقته عبر حديثها عن الأمل وقدرة المرء على تخطي المشاكل مهما بلغت صعوبتها.
كغنوى، لا تزال زهراء في حالة من الصدمة في إثر فاجعة رحيل قريبها أحمد عودة منذ قرابة العام انتحاراً. ففي بلدة الخضر اللبنانية، قضاء بعلبك شرقيّ البلاد، أقدم عودة وهو في العقد الخامس من عمره على قتل ابنه البالغ من العمر 25 عاماً وهو في سريره ثم انتحر.
تقول زهراء إنها شاهدت بأم العين جثتي الأب والابن، لكنها لم تصدّق ما حصل وظنّت للوهلة الأولى أن هناك من ارتكب جريمة بشعة بحقهما.
"أحمد شخص مؤمن وإنسانيّ، كنت أتوقّع أن يفعلها أي شخص إلا هو، لكن في الفترة الأخيرة لم يكن وضعه المادي بالجيد، لديه أربعة أطفال، وقد تعب وجاهد لإيجاد وظيفة لابنه قبل أن تقع الحادثة الأليمة"، وفق زهراء.
وتختم: "لا أحد يعلم الأسباب التي أدت إلى هذه الفاجعة، لا نعلم ما الذي كان يفكّر به في تلك اللحظة، ولكن كلّ ما نعرفه أننا لا نزال في حالة ذهول مما حصل".
حالات الانتحار في لبنان.. أرقام تثير القلق
في آخر دراسة لها عن الانتحار في لبنان، أشارت الدولية للمعلومات المعنية بالأبحاث والدراسات والإحصاءات العلمية المختلفة عن ارتفاع نسبة حالات الانتحار، إذ بلغت 65 في المئة، خلال الأشهر والأيام المنصرمة من العام الحالي، لافتة إلى أن حالات الانتحار ارتفعت إلى 66 ضحية مقارنة بـ40 حالة في الفترة نفسها من العام الماضي.
ومن شأن استمرار الأمر على هذه الوتيرة، أن يرفع العدد في نهاية العام إلى أكثر من 170 ضحية، وهو الرقم الأعلى المسجّل بين الأرقام في الأعوام الممتدّة من 2012 إلى 2022 على حد توثيقها.
ففي عام 2012 بلغت حالات الانتحار 108 حالات، فيما بلغت 128 حالة عام 2016، وفي عام 2020 بلغت 145 حالة، فيما وصلت إلى 138 حالة عام 2022.
الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين بدوره كشف في حديثه للميادين نت أن هذه النسبة شملت كل المناطق تقريباً ومختلف الفئات العمرية، مشيراً الى أن 80 في المئة منهم هم دون سن الـ45.
هذه المعطيات تتقاطع مع ارتفاع نسبة الأشخاص الذين تراودهم أفكار بالانتحار. جمعية "embrace"، وهي جمعية للدعم النفسي والوقاية من الانتحار، تأسست عام 2017 بالتعاون مع وزارة الصحة، أكدت بدورها أنها تتلقّى آلاف الاتصالات شهرياً من أشخاص يفكّرون بالانتحار، أو تبليغات عن أشخاص تراودهم أفكار بالانتحار.
ميرا دالي بلطة، معالجة نفسية ومشرفة على خط الحياة 1564 في الجمعية، كشفت أن عدد هذه الاتصالات هي بين 1000 و1200 اتصال شهرياً من هؤلاء الأشخاص، عازية السبب إلى زيادة الوعي عند الناس لطلب المساعدة، وارتباط الوضع الاقتصادي بتفاقم الحالات النفسية.
من هنا، تؤكد بلطة أن الجمعية لم تخسر أيّ شخص لجأ إليها لمساعدته على وضع حد للأفكار التي تراوده للانتحار، لافتة الى أنها لا يمكنها الجزم بأنها لن تخسر لاحقاً، ذلك أن الجمعية تقدّم الدعم النفسي، لكنها لا تملك الإمكانيات المادية لحل مشاكلهم التي تساهم في تدهور حالتهم النفسية أو التفكير بالانتحار.
"اليأس ثم الانتحار".. الوضع الاقتصادي ليس وحده السبب!
إذاً، يبدو جلياً أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالبلاد أثّرت بشكل أو بآخر على الأوضاع النفسية للأفراد، وساهمت في تنامي حالات الانتحار، أو زيادة في عدد الأشخاص الذين تراودهم أفكار بالانتحار.
ولكن أن يقرّر البعض الانسحاب من الحياة، مهما اختلفت الطرق، فلذلك أسباب عديدة لا يمكن حصرها فقط بالأسباب المادية على حد تأكيد بعض المختصيين والمعالجين النفسيين في لبنان.
المعالجة النفسية العيادية شهرزاد نبوه واحدة من هؤلاء، تقول في حديثها للميادين نت، إن الانتحار هو نتيجة لعدة عوامل مجتمعة، منها الخلل في الوظائف البيولوجية، والصدمات السابقة، وعوامل اجتماعية واقتصادية ونفسية مختلفة.
نبوه ترى أنّ أهم عامل من عوامل الانتحار هو نظرة الفرد للأمور، وتبنّيه لأفكار مشوّهة وخاطئة تؤثّر على تفكيره وتصرفاته.
فمن خلال معاينتها لأشخاص جنحوا نحو الانتحار، تشير نبوه إلى أن عدة أفكار جمعت هؤلاء من قبيل "خسرت حياتي عندما خسرت أموالي، لن أقدر على توفير عيشة كريمة لأطفالي، الأوضاع لن تتحسّن أبداً".
كلام نبوه يتقاطع مع تأكيد المختصّ والمعالج النفسي التربوي والعيادي محمود غنوي في حديثه للميادين نت، أن هناك أسباباً نفسية للانتحار، فالاكتئاب الذي يكون عادة بين بسيط وحاد قد يدفع المصابين به إلى الانتحار أو التفكير بالانتحار.
ويذكر غنوي عدة أسباب للانتحار، منها على سبيل المثال تعاطي المخدرات، كذلك المخدرات الإلكترونية التي قد تؤدي إلى ردات فعل غير مسيطر عليها، وهذا انتحار غير مقصود.
وحثّت غنوي على أهمية التعامل مع أيّ تهديد بالانتحار أنه واقع حقيقي، وعدم التشهير به أو الترويج له، والتعامل مع المنتحرين على أنهم ضحايا وليسوا أبطالاً.
وخلص كلّ من غنوي ونبوه بوجوب متابعة الأشخاص الذين تراودهم أفكار بالانتحار عند طبيب أو معالج نفسي، ليصار إلى تعديل الأفكار غير السوية لديه، فضلاً عن الدور الهام الذي تؤديه المساندة الإرشادية الاجتماعية.