مئات المراكب متوقفة عن العمل.. صيّادو اللاذقية: رحلة البحر لا تعيلنا
بعد 12 عاماً من الحرب التي استنزفت كل شيء، يزداد عدد الصيادين السوريين الذين يعودون إلى البر، مديرين ظهورهم للبحر، بعد أن كانوا يعتبرونه صديقهم ومتنفّساً أخيراً لهم.
تقع سوريا على الشاطئ الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وتمتلك ساحلاً طوله نحو 193 كم، كان يؤمّن كامل احتياج البلاد من الأسماك البحرية.
وبيّنت نتائج دراسة أجرتها جامعة تشرين الحكومية مؤخراً، أن المتوسط السنوي للإنتاج من الأسماك البحرية في سوريا، قد تناقص في فترة الحرب بمقدار 56% عن الفترة السابقة، وقد ارتفع الرقم القياسي لمتوسط أسعار الأسماك نتيجة التضخم إلى 1406.6%.
أما نصيب الفرد الذي كانت تَعِد الحكومة أنها سترفعه إلى 7 كغ سنوياً، فقد تراجع بنسبة 59% أي إلى 0.7 كغ، مقابل متوسط عربي قدره 11 كغ، وعالمي قدره 18 كغ.
واليوم وبعد 12 عاماً من الحرب التي استنزفت كل شيء، يزداد عدد الصيادين السوريين الذين يعودون إلى البر، مديرين ظهورهم للبحر، بعد أن كانوا يعتبرونه صديقهم ومتنفّساً أخيراً لهم.
المعاناة جزء من حياتنا اليومية
على الأوتوستراد المؤدي إلى" الشاطئ الأزرق" في اللاذقية، ينتشر العديد من المطاعم والمنتزهات السياحية، لكن القليلين فقط هم من يعرفون بوجود "ميناء الصيد والنزهة"، لأن حاله كحال أغلب الواجهات البحرية في المحافظة، "غير ظاهرة للعيان".
أن يستخدم أحد هنا الاسم الرسمي للميناء هو أمر مستبعد ومستغرب للغاية، فلا يعرف الصيادون ميناءهم سوى باسم "المينا اليوغسلافية"، نسبة إلى جنسية الشركة التي نفّذت المشروع أواسط السبعينيات.
بالقرب من مكسرَي رسو السفن، اللذين يتسعان لنحو 350 قارباً، ينهي الصياد أبو إبراهيم صيانة بعض الشباك والشرك التي تحوي عدداً كبيراً من صنارات الصيد، ويقول للميادين نت: "عملنا لا يتوقّف لا ليلاً ولا نهاراً، فنحن بحاجة لأن نقوم بصيانة يومية لشباكنا، لأنها قد تتقطّع أثناء سحبها من البحر، أو في حال صيد أسماك كبيرة الحجم".
يصعد الرجل الستيني إلى مركبه ليضع شباكه في مكانها المخصص، ويشير إلى اسم "اليمامة" المطبوع بخط كبير وملفت للنظر على جانب القارب ويشرح: "كلّ صياد منا يحبّ مركبه ويعامله كأنه فرد من أسرته، لدرجة تسمية كل مركب بأسماء مختلفة".
يلبّي أبو إبراهيم نداء مجموعة من رفاقه الصيادين لشرب كأس من الشاي "الأكرك عجم"، كتميمة حظ لهم قبل انطلاقهم في رحلة "الحظ والمجهول"، كما يسميها ويضيف: "نشعر بالنقص في اليوم الذي لا نبحر فيه، هناك علاقة أكبر من الصداقة بيننا كصيادين ومراكبنا مع البحر، إذ إنه يحدّد لنا المسافة التي نقطعها على مزاجه"، يضحك ويرتشف قليلاً من الشاي، ويتابع: "نراقب إذا ما كان البحر "غلينة" أي هادئ، أو "نو" أي أمواجه عالية، وننشر شباكنا بانتظار رزقنا، وفي هذه الأثناء لا أعرف من أين تتدفق الأحاديث المختلفة بيننا نحن الصيادين الموجودين على المركب نفسه".
"هو يريد أن يقول لك إننا نرمي همومنا مع الشبك، لكنه لا يجيد التعبير"، يضحك الجميع على الجملة التي قالها أبو محمد، الصياد الستيني الآخر، ويضيف: "المعاناة جزء من حياتنا اليومية، رحلة الصيد صارت لا تسد تكاليفها معظم الأحيان، فكيف إذا بخلت شباكنا علينا وعدنا خاليي الوفاض، نحن لا يوجد لدينا متوسط ربح، فالدخل متفاوت بين يوم وآخر وبحسب نوع السمك وسعره بالسوق، أما المخاطر التي نتعرّض لها فتلك قصة أخرى".
يؤكد أبو محمد أن الوضع اختلف كثيراً عن الأيام الماضية، فحين كان صغيراً كان ثمن ما يعود به الصياد من البحر يكفيه لعدة أيام، "أما الآن فمعظم الصيادين يعملون بمهن إضافية حتى أنا، ومع ذلك لن أوقف المركب الذي أورثني إياه أبي وجدي عن الإبحار، لكن على الرغم من كل هذا، أنا متأكد أنك إذا سألت أي صياد عن أكثر مكان يشعر فيه بالراحة فسيجيب البحر".
هل يريدوننا أن نترك البحر للحيتان؟
يقف الريس سعيد بالقرب من أحد الأرصفة في الميناء، يراقب المراكب التي تستعد للإبحار، ويسأل بعض الصيادين العائدين: "كيف كانت الغلة اليوم؟!".
381 مركب نزهة، و566 مركب صيد مرخصة في اللاذقية، لكنّ نصفها متوقف عن العمل، ومن بينها مركب الرجل الخمسيني، بسبب نقص المحروقات وغلاء عدّة الصيد.
ويشرح للميادين نت: "الأسعار جنونية ولا يحتملها عقل، فمثلاً الصنارة اليوم بـ3000 ليرة بعد أن كانت بـ10 ليرات، والصيانة السنوية للقارب، تكلّف 4 ملايين ليرة، أي ما يعادل 400 دولار".
لم يحصل الصيادون على مخصصاتهم من المازوت المدعوم منذ شهر، ومن غير المعلوم متى سيتم تزويدهم به، إذ إن كل رحلة صيد تحتاج إلى 20 ليتراً من المازوت، في الوقت الذي يحصل فيه كل صاحب زورق على كمية 120 ليتراً شهرياً فقط.
ويتابع الريس سعيد الحديث قائلاً: "من أين نأتي بالمال لنشتري من السوق السوداء؟! ولا يوجد من يعوّض علينا عن أي أخطاء بحقنا، مثلاً توقفت المراكب التي تعمل بالمياه الإقليمية لمدة شهر في أوج الموسم، بسبب خطأ تقني من شركة "تكامل" المسؤولة عن التوزيع".
يعتبر ابن مدينة اللاذقية أن هذه المهنة سائرة في طريقها إلى الاندثار "من دون شك"، لأنها لم تعد "تُطعم خبزاً"، مبرهناً على ذلك بعدم إقبال الجيل الشاب ممن كان آباؤهم وأجدادهم صيادين، على خوض غمار هذا العمل، عدا عن العدد الذي يترك المهنة كل يوم.
وختم حديثه قائلاً: "هناك نحو 8000 عائلة تعتاش من القوارب التي تعمل في المياه الدولية والإقليمية، هل هناك من سيلتفت إليهم أو يفكّر بوضعهم ويساعدهم ولو قليلاً؟! والأهم هل يريدوننا أن نترك البحر للحيتان؟!".
"لم نخف من البحر.. لكننا نخاف أن نترك الصيد الخامسة صباحاً، يحمل سمير غلّته ويسرع خطاه تجاه "مسبح الشعب"، حيث يقام بازار السمك اليومي الذي يمتد حتى الساعة الواحدة ظهراً". يمنّي الصياد الشاب نفسه بمردود مالي جيد، كي يفي بالوعد الذي قطعه لطفله، بشراء ثياب للعيد.
ويقول للميادين نت: "هذا السوق يجمع صيادي اللاذقية وطرطوس وبانياس، ومعهم أسماكهم التي اصطادوها من البحر ليلاً، هناك من يقوم بالبيع لأصحاب المحلات التجارية وهو الأفضل، لأن التاجر لديه زبائن من دمشق وحلب، ومتعاقد مع أصحاب المطاعم، وهناك من يقوم ببيع السمك بشكل إفرادي للمستهلك مباشرة، لكن يأخذ وقتاً أطول".
"نحن الخاسرون بكل الأحوال"، بهذه العبارة يصف سمير نتائج البيع التي تجري بإشراف السماسرة، لأن "الصياد يخسر سلفاً نسبة من صيده بما تسمى محلياً بالطبشة، أي ينقص التاجر سعر ووزن كيلو غرام تقريباً، من كل عشرة كيلو غرامات، ولا ننسى عمولة السمسار أيضاً".
أما عن أسعار السمك، فيقول سمير إنّ "لكل طبقة اجتماعية نوعاً معيّناً، وسعراً معيّناً" ويشرح: "سمك البلميدا الذي كنا نسميه سمك الفقراء، كان الكيلو منه سابقاً بنحو 6 آلاف ليرة، صار اليوم 35 ألف ليرة، وسعر كيلو الغبّص كان 12 ألف ليرة، اليوم يباع بسعر 60 ألفاً، بينما أسماك الأغنياء كاللقّس والقريدس، فتتراوح أسعارها بين 150 – 200 ألف ليرة للكيلو".
يعتبر ابن ريف اللاذقية أن هناك عوامل غير داخلية تزعج الصيادين، مثل المضايقات والصدامات التي تتعرّض لها المراكب الدولية من الجانب التركي، بهدف منعهم من الصيد وقرصنتهم وسرقة قواربهم، ويقول: "قبل أيام فقط تعرّض رفاقنا لمضايقات الخفر التركي، وتطوّرت الحادثة إلى إطلاق نار، ولكن الحمد لله لم يتم تسجيل إصابات".
يتنهّد الصياد الشاب بعمق، ويختم حديثه بالقول: "لم نخف يوماً من خطر العواصف في عباب البحر.. لكننا اليوم نخاف أن نترك المهنة".