مؤونة الشتاء في لبنان تتقلص.. أصناف عديدة ليست ضمن القائمة بعد غلاء أسعارها
المونة بحد ذاتها وبرغم كونها تقليداً ينتقل من جيل إلى جيل، لم تعد جميعها خياراً وبديلاً اقتصادياً عن الأطعمة الجاهزة للعائلات اللبنانية، بعدما تجاوزت كلفة تصنيعها أو شرائها مئات الآلاف، في ظل ظروف صعبة يعيشها اللبنانيون في إثر أزمتهم الاقتصادية الأخيرة.
موقد صغير، وعاء نحاسي كبير، حطب وباذنجان وماء وملح، إنها تجهيزات "المكدوس" الأولية التي باشرت بتحضيره أم حسن القاطنة على أطراف بلدة العين البقاعية، هناك حيث تنشط حالياً أغلب العائلات لصناعة أصناف المونة المختلفة والتي توارثها الأبناء عن الأجداد منذ زمن بعيد، فشكّلت جزءاً من تراثها الريفي الأصيل.
تشعل أم حسن الموقد قبيل انتهائها من تحضير كميات الباذنجان لسلقها، بإمكانك وأنت في هذا المكان، أن تشتمّ رائحة اشتعال الحطب المنبعثة من أرجاء القرية، فالكلّ هنا يعتمد عليه لتوفير الغاز في صنع مونته.
لكن توفير الغاز وحده لم يعد يكفي لصناعة المونة، "كل شيء غالي"، تقول أم حسن. وتوعز في حديثها إلى الميادين نت أن نلقي نظرة على "النملية"، وهي المكان المخصّص لتوضيب المونة، وفيها القليل من أنواع المونة المختلفة. "كانت هذه الرفوف تمتلئ كل عام بكل أنواع المونة التي لا يمكن إحصاؤها بسهولة"، تضيف أم حسن شاكية من عدم قدرتها اليوم على تحضير أصناف المونة الغذائية جميعها.
تؤكد أم حسن أنها باتت تلجأ إلى التقشّف حالياً بعدما طرأ غلاء واضح على المواد الأولية الضرورية لتحضير المونة. "عمدتُ إلى تقليل الكميات التي أجلبها لتوفير صنف واحد من المونة مثلاً، أو بعض الأنواع التي لا يمكنني الاستغناء عنها".
المكدوس، الكشك، اللبنة، اللبن، البقوليات، الحبوب، الملوخية، المخللات، المربيات، البندورة المكبوسة، الفاكهة المجففة، الزعتر، الزيتون، وزيت الزيتون، كلها أصناف من المونة تتنافس القرى اللبنانية في تصنيعها خاصة مع بداية شهر أيلول/سبتمبر وهو شهر المونة بامتياز.
بيد أن المونة بحد ذاتها وبرغم كونها تقليداً ينتقل من جيل إلى جيل، لم تعد جميعها خياراً وبديلاً اقتصادياً عن الأطعمة الجاهزة للعائلات اللبنانية، بعدما تجاوزت كلفة تصنيعها أو شرائها مئات الآلاف، في ظل ظروف صعبة يعيشها اللبنانيون في إثر أزمتهم الاقتصادية الأخيرة.
أكلاف باهظة لمونة الشتاء واللبنانيون يلجؤون الى تقنينها
"بأيلول موّن لعيالك وشيل الهم عن بالك"، تقول ولاء، وهي تفرط حبات الرمان من أكوازها، استعداداً لصنع دبس الرمان الذي لا يكاد يخلو أي بيت لبناني منه. وتضيف ممازحة: "لكن المونة باتت في هذه الأيام همّاً جديداً".
تشرح ولاء التي تبيع دبس الرمان حسب الطلب، كيف اضطرت إلى تقليص كميات الرمان التي اعتادت على شرائها سابقاً.
"السنة الماضية بلغت تكلفة قارورة دبس الرمان الواحدة حوالى مليون وثلاثمئة ألف ليرة لبنانية، أما اليوم فالسعر مضاعف. تخيلوا أكثر من مليوني ليرة صار سعر القارورة الواحدة من دبس الرمان!".
مثل ولاء، أجبر غلاء أسعار اللبن والحليب أم ميسم على التقنين في كمية "لبنة الجرة" التي تصنعها كل سنة في بلدتها البقاعية زبود، إذ تستغرق عملية إعدادها ستة أشهر، حيث تملأ الجرة لأول مرة بحليب الغنم وتكون لها فتحة صغيرة في أسفلها يخرجون منها المصل بعد ثلاثة او أربعة أيام، تتكرر العملية طيلة فصل الصيف، وذلك بإضافة حليب الماعز الطبيعي. وتتميز لبنة الجرة أن لها قابلية الحفظ لمدة سنة من إنتاجها.
"هذه اللبنة، كانت من أهم أنواع المونة التي أقوم بإعدادها"، تقول أم ميسم. وتستطرد قائلة: "الشتاء القاسي على الأبواب، ونجد صعوبة بالغة في الخروج يومياً لتلبية احتياجاتنا، المونة تنقذنا في شتائنا القارس".
وتضيف أم ميسم: "هذه السنة صنعت نصف الكمية التي كنت أعدها من لبنة الجرة في السنوات الماضية، بعدما قفز سعر الحليب من 15 و20 ألف ليرة قبل الأزمة إلى 400 ألف و500 ألف لكل 400 كيلغرامات من الحليب".
كذلك الحال بالنسبة للباذنجان، تشير أم ميسم إلى أنّ عملها هذا العام على 50 كيلو باذنجان فقط، بعد أن وصل سعر الكيلو الواحد منه إلى 30 ألف ليرة، بينما لم يكن يمض صيف إلا تقوم فيه بتحضير ما يربو على 100 كيلو باذنجان لصنع المكدوس".
أما عائشة من منطقة عكار البقاعية، فتلفت الى أن عائلتها زرعت الباذنجان كي تتمكن من صنع المكدوس الذي بات مكلفاً بجميع مكوناته، كالجوز والفليفلة والزيت، فقد صار سعر وعاء "المكدوس" جاهزاً مليونين ونصف مليون ليرة لبنانية في أحسن الأحوال.
التقنين في" التموين" الذي باتت تعتمده العائلات اللبنانية مؤخراً لحظته أيضاً الناشطة الاجتماعية وصاحبة معمل المونة في منطقة الهرمل سامية اسكندر، والتي تحضر المونة في معملها، وتمتلك فريق عمل متخصص في صنعها.
وتؤكد اسكندر في هذا السياق أنّ الطلب على المونة تقلص بنسبة 50%. فزبائن سامية الذين اعتادوا على شراء "الكشك" مثلاً، كانوا يموّنون سابقا أكثر من عشرة كيلوغرامات منه، بيد أنهم اليوم، وبعدما ناهز سعر الكيلوغرام الواحد من الكشك مليون ليرة لبنانية، غدوا يطلبون نصف هذه الكمية أو ربما أقل من ذلك في ظل غلاء البرغل وارتفاع كلفة طحنه، فضلاً عن غلاء اللبن الذي وصل إلى 300 ألف ليرة مقابل 4 كيلوغرامات.
وتعتبر سامية أن النّاس في القرى اللبنانية برغم غلاء المونة، لا زالوا مُصرّين على توفيرها لبيوتهم في الشتاء وإن كانت بكميات قليلة، خوفاً من تدهور الأوضاع الاقتصادية أكثر. لكن بعضهم بات يستغني عن أصناف معينة من المونة، إذ تحوّلت هذه الأخيرة إلى مشتريات جاهزة من السوق حسب الحاجة.
موسم المونة بلا مربيات وحبوب وفواكه مجففة
تؤكد سامية اسكندر أنه طوال فترة عملها في المعمل، أي منذ 23 عاماً لم تمرّ أوضاعاً على اللبنانيين كهذه، إذ إنّ المعمل كان يوفر كل أنواع المونة وبكميات كبيرة جداً، وفق قولها، "أما اليوم فالوضع اختلف مع ارتفاع أسعار موادها".
وتلفت إلى أنّ المغتربين وحدهم هم من يطلبون مختلف أنواع المونة أكثر من غيرهم، مضيفة: "لم نعد نشهد طلباً على دبس البندورة بعد أن وصل سعر الكيلو منه إلى 90 ألف ليرة".
بالإضافة إلى ذلك، فقد تراجع الطلب على المربيات، كما أنّ أغلب الناس اسغنوا عن صنعها بعد ارتفاع أسعار السكر والفواكه.
وتشير سامية الى أن ذلك انسحب أيضاً على الفواكه المجففة، وبعض الحبوب، كالبرغل والعدس والحمص.
تشاطر أمل سامية الرأي، فالاستغناء عن أصناف معينة من المونة بات أمراً واقعاً، قائلة إنه "لم نعد نملك ترف تموين كل شيء".
وهذا الواقع الجديد كان له ضريبة غيرت قليلاً في علاقات الترابط الاجتماعي القائمة على المساعدة والتعاون في القرى، والتي كانت تتجلى بوضوح في مواسم تحضير المونة.
تحكي أمل بحسرة كيف أنها غدت تفتقد إلى تجمّع النساء في المنازل، حيث يتوجّهن لمساعدة ربة المنزل في مونتها، ويتشاركن جميعهن في صنع المكدوس والكشك في سلق القمح وتنشيفه، ثم فرز البرغل وفصل الناعم منه عن الخشن.
صنع المونة كان عملاً جماعياً بامتياز، يرتكز على تعاون الجيران وتقديم يد العون، تقول أمل، وتضيف: "لقد كانت ضحكاتنا تجعل من صنع المونة شيئاً رائعاً"، أما اليوم فقد حال الوضع الاقتصادي الخانق دون تجديد هذا الجو من الألفة والتكاتف، فصنع المونة تحوّل إلى تقليد فردي بعد التقليل في كمياتها وإلغاء صنع العديد من أصنافها.