لبنان: "سوق الجمعة" في مخيم برج البراجنة يتحدى الأزمة الاقتصادية
يفتح "سوق جمعة" في مخيم برج البراجنة الفلسطيني في بيروت أبوابه يوم الجمعة، ويبدأ توافد العارضين، كلٌّ يقيم منصته الخاصة، منهم من يعرض مصنوعات جاهزة من صنع يدوي، كالعبايات والكوفيات الفلسطينية.
فلسطينيو مخيم برج البراجنة، ومن يشاء من خارجه، باتوا على موعد كل يوم جمعة لاختبار الحياة الفلسطينية التقليدية، عبر ارتياد "سوق الجمعة" المستحدث في المخيم، ارتداداً لأسواق الجمعة في فلسطين مثل أسواق القدس، ورام الله، وغزة وسواها من مدن وبلدات.
تقف وراء فكرة سوق الجمعة صمود غزال، من بنات المخيم، متخرجة بالإعلام، وعلم النفس من جامعة بيروت العربية، تعيش معاناة شعبها، وتتحسّس آلام المخيم مثل بقية الفلسطينيين، وبعد انضمام اللبنانيين، وكل من يسكن لبنان، إلى الأزمة المستفحلة فيه، شعرت بوجوب القيام بخطوة لا تلغي الظلام الذي يفوق طاقتها؛ اكتفت بأن تُشعِل شمعة، لعلها تنير طريقاً في الظلام الدامس.
قُيّض لصمود أن تكون والدتها فاديا لوباني مديرة لـ"روضة أبناء القسام" في المخيم، وفي الروضة ملعب، ومساحة نادرة في وسط الاكتظاظ السكاني في المخيمات، فألهمَتْ المساحة مخيّلتَها لأن تُحوّل الفكرة إلى سوق يُحيي شيئاً من حياة فلسطين، ويكرّس حلم ما بعد العودة، لكنه في المدى القريب، يساعد أبناء المخيم والجوار على الصمود، ومجابهة صعوبات الأزمة الخانقة.
تقول صمود: "طرحْتُ على والدتي فكرة استخدام ساحة الروضة لنجعل منها سوقاً شبيهةً بسوق الجمعة في مناطق فلسطينية متعددة"، مضيفة: "فكرة هَدَفْنا منها إفساح المجال لأبناء المخيم أن يجدوا عملاً يخفّف وطأة الأزمة، وأنا، وكثيرون سواي، نبحث عن حاضنة مشتركة بعد غياب منظمة التحرير الفلسطينية، وما تلا ذلك من شعور بالمزيد من التشتت، والتهديد، والضياع".
يوم الجمعة عطلة، والساحة فارغة، ولن تنعكس أية حركة على دراسة الأطفال، وتعليمهم. وجدت لوباني في طرح ابنتها بارقة ضوء وأمل، فوافقت، ووضعت الفكرة على سكّة التطبيق، وانضمت إلى التنفيذ مختلف المؤسسات الاجتماعية العاملة في المخيم.
تضيف صمود: "الفكرة جاءتني نظراً للظروف التي تمر بها المخيمات في لبنان في ظل الأزمة الاقتصادية، وغياب فرص العمل، يفاقم ذلك الصعوبات التي يواجهها الفلسطيني بغياب حق العمل، وأزمة كورونا؛ تساءلنا عن طريقة إنتاج داخل المخيم، فكانت فكرة السوق".
وجهت صمود الدعوة عبر وسائل التواصل، ولقيت الفكرة الترحيب الكبير، من مختلف الناس والهيئات الاجتماعية، وتقول: "شدّدنا على أن نطلق على المبادرة وصف "فكرة"، وليس مشروعاً كي لا تبدو الغاية كأنها الربح المحض، بل فكرة تقوم على خَلْق مجتمع منتج، بتكافل الجميع، ولا ينقصنا هذا التكافل لننتج ونُحَسّن الوضع قدر الإمكان".
من المشاكل التي واجهت العمل بدايةً بيئة المخيم الضيقة؛ كثيرون تردّدوا خجلاً، لكن مع الوقت، انكسر الخجل بحسب ما رأتْ صمود، "لأن الجميع مقتنع بالتعاون والتكافل، والمجال مفتوح لكل من عنده فن، وأسلوب عمل، أو أي طريقة إنتاج، أن يعرض في السوق، فالمهم بالنسبة لنا هو خلق بيئة للإنتاج".
اتسع صيت الدعوة، وبدأت تظهر مشاركات من مختلف المناطق والمخيمات، مثل شاتيلا وعين الحلوة، ومن لبنانيين أيضاً، فعجّ السوق بنسوة يطبخن، ويصنعن المنتوجات البيتيّة، والأشغال اليدويّة، ومختلف الحرف، وبحسب صمود، "طُرِِحَتْ المنتوجات بأسعار معقولة، من دون خسارة، فهذه الفكرة فيها إفادة واستفادة".
وعرضت فاديا لوباني جوانب من البحث في السوق، ذاكرةً أنّ "الفكرة بدأت مع صمود عندما كنا نتداول بمشاكل الغلاء، وصعوبة الحياة في المخيم، وصعوبة الحصول على الكثير من الأساسيات، فكانت فكرة إقامة سوق الجمعة على أساس أن كل من عنده إنتاج معين، تؤمَّن له سوق عرض، وتوفر عليه ايجار المحل، وتكاليف الكهرباء، وما شابه من رسوم ومصاريف".
انضم إلى السوق كثيرون من الأشخاص يعرضون ما يصنعون، لكن خلال البحث والتواصل، "تعرّفنا بالكثير من الناس الذين ينتجون منتوجات المونة، والمربيّات، والمخلّلات، ومنتوجات الخياطة، والحياكة اليدوية، والعديد من الحرفيات، وهم غير معروفين، ولا أحد يطلب إنتاجهم. نحن أقمنا لهم سوق إنتاج وعرض، ويبقى العمل عليهم"، بحسب لوباني.
في ضوء الحملة الإعلامية التي أقيمت حول السوق، تأمّن مجالٌ جيدٌ لفرص عمل للفلسطيني في لبنان. وبذلك، تقول لوباني، "نكون قد فتحنا له آفاقاً لتصريف الإنتاج"، من جهة، ومن جهة ثانية، نعرف أن غالبية البيوت فيها حاجات لم تعد تستخدم كالثياب، ويمكننا أن نعرضها للبيع في السوق بأسعار رخيصة.
تفاعلت الفكرة عند التطبيق، وجرى تبادل المنتجات، والحوائج، و"انكسر خجل العمل عند العديد من النساء، وصارت لوباني وصمود يشجّعنهن، وتتيحان لهنّ مساحات خاصة، والسوق ينشط مع الوقت.
يفتح السوق أبوابه يوم الجمعة، ويبدأ توافد العارضين، كلٌّ يقيم منصته الخاصة، منهم من يعرض مصنوعات جاهزة من صنع يدوي، كالعبايات والكوفيات الفلسطينية، والبرانيط القش، وجزادين القماش والجلد، وسواها من مصنوعات يدوية ذات طابع حرفي.
على منصات أخرى عرضت أثواب بألوان مختلفة، هي مستعملة لكنها لا تزال في حال جيدة تقي اليوم من لهيب أسعار الثياب الجديدة، ومنهم من يعرض مكبوسات ومخللات للأكل، ومن النسوة من جلسن حول صاج لطبخ المناقيش، بينما سعت سيدات أخريات لتصنيع مأكولات منزلية وحلويات محبّبة لدى كثيرين.
بعض أنحاء الملعب-السوق تحوّل إلى ما يشبه الديوان يتحلق في نقاط منه أصدقاء وصديقات وأولاد وأطفال، يتبادلون هموم الأيام الصعبة، ويقضون بعض وقت ترفيه حيث يعجزون في أمكنة أخرى، وبدأ السوق يتحول من سوق للتبضع إلى ملتقى اجتماعي تتعزز فيه قيم التكافل، والمقاومة للاستمرار.