كيف يعيش ناس "أوروبا الجديدة" يوميّاتهم بلا سقف اقتصادي آمن؟
الأزمة المالية العالمية الكبرى في عام 2008، وأزمات العالم الثالث وحروبه، كلها ضخّت موجاتٍ جديدة من المهاجرين إلى أوروبا الغربية، وجاءت في طريقها مفاعيل "كوفيد 19" القاسية، فأنتجت خوفاً كبيراً عند كل مقيمٍ في القارة العجوز، مواطناً كان أم مهاجراً.
-
كيف يعيش ناس "أوروبا الجديدة" يوميّاتهم بلا سقف اقتصادي آمن؟
بينما تشتدّ الأزمات السياسية والصراعات الجيوسياسية حول العالم، وتتفاعل المؤشرات الاقتصادية القاتمة، وتسرق ثنائيّة يمين-يسار الاهتمام الإعلامي، يبرز سؤالٌ من تحت هذه العناوين العريضة التي تغري الاهتمام الخارجي والجدل الداخلي، وهو سؤالٌ كبير ربما يؤثر في ما سبق كلّه: كيف يعيش المواطنُ الأوروبي العادي في هذه البيئة المليئة بالمخاطر؟ وكيف ينظر إلى المستقبل؟
قبل سنواتٍ قليلة، كانت المعيشة في أوروبا بالنسبة لإلى المغربي سفيان ب. حلماً لطالما سعى إليه وزجّ في سبيله بكل ما استطاع تحصيله في مدينته فاس، وقد وصل قبل ستِ سنوات العاصمة الفرنسية باريس، حيث عمل في أنواع عدّة من الأعمال، في متاجر للأثاث المنزلي ثم إلى شركات الصيانة المنزلية، التي تتسلّمها شركات ثم توكل أعمالها التنفيذية في العادة إلى اليد العاملة المهاجرة، لتوفير الكلفة وضمان استمرارية توفر قوة العمل اللازمة لتنمية هذا النوع من الشركات.
بعد استقراره في عمله الأخير لدى إحدى هذه الشركات، وجد سفيان نفسه راضياً عن مردوده المالي، وكان يخطط للتوسع في أعماله كما يقول. تنشط الشركة التي يعمل لها في التصليحات لدى أصحاب المنازل والمؤسسات في أقسامها المختلفة. وهو إن كان ينتج الحد الأدنى من الراتب في البداية، فإن توفر وتيرة عالية من الأعمال كان ينقذه عند نهاية كل شهر، ويعطيه أملاً بالنمو مع مرور الوقت.
هكذا كانت الحال قبل أن تضرب جائحة "كوفيد19" العالم وفرنسا. ومنذ ذلك الوقت، تراجعت الأعمال مع اتخاذ البلاد إجراءات الحجر المعروفة مع انتشار الجائحة. عانى سفيان في تلك المرحلة من تعثّر أعماله، واضطر إلى الاعتماد على المساعدات الاجتماعية أملاً بتغيّر الأحوال مع مرور الوقت. يقول الرجل: "كنت خائفاً على عملي من استمرار الجائحة لعدة سنوات أكثر من خوفي على حياتي"، ويكشف أنه كان يناور على الإجراءات العامة ويعمل في السوق السوداء لمواجهة الفقر، الذي وجد طعمه في الغربة أشد مرارةً مما خبره في بلده الأم.
يتابع الرجلُ حكايته التي تواصلت فصولها مع نهاية الجائحة، لتنتقل ظروفه إلى التأثر بمعطياتٍ أخرى مختلفة، منها زيادة الضغوط على المهاجرين، وتعرّضهم للتصنيف والتمييز في المجتمع، خصوصاً في ظل وجود تنافرٍ واضح بين قسمٍ كبيرٍ من مواطني البلاد، وبين المهاجرين، خصوصاً من الجالية العربية والإسلامية الكبيرة التي تعدّ الأكثر عدداً في أوروبا. لكن حجم الجالية كان يخلق هوامش إيجابية للعمل، بحسب سفيان، الذي يقرّ بأنه استفاد من هذا الجانب ليعمل لدى أبناء هذه الجالية.
الآن، ومع وصول الانقسام المجتمعي إلى مستوى أعلى، وتصاعد النقمة الشعبية على الحكومة الفرنسية والسياسات العامة، وارتفاع نسب التضخم في السنوات الثلاث الأخيرة، والضغوط الناجمة عن حرب أوكرانيا، يجد الرجل نفسه في وضعيةٍ سيئة، حيث لم يعد مردوده كافياً لتأمين حياةٍ مستقرة. يبلغ الرجل الآن من العمر 36 عاماً، عازبٌ، ويتحدث عن ذلك بنوعٍ من الأسف لنفسه، وتشاؤم مما قد تحمله الأيام.
يُسرّ سفيان لمحدّثه في إحدى المقاهي المنتشرة في ضاحية باريس الشمالية بأنه يفكّر بالفعل في العودة إلى المغرب. يقول إنه هناك لن يواجه المشاعر التي يضطر إلى مواجهتها هنا. وبين هناك وهنا، يقول الرجل إنه يعاني من ضبابيةٍ في اتخاذ القرار، وخوفاً من الندم على أي خطوةٍ يتّخذها. "لا أعرف"، هكذا يلخّص إجابته عن السؤال عمّا إذا كان يأمل بتحسّن الأوضاع في أوروبا في السنوات المقبلة. ويسحب تلك الإجابة نفسها على سؤالٍ آخر، حول ما إذا كان سيرجع بالفعل إلى بلده.
وإلى الشمال من باريس، بعد الحدود وفي قلب بروكسل، تتحدثُ سيدةٌ، من جنسيةٍ أوروبية هذه المرة، لكنّها كما سفيان غادرت بلدها إيطاليا في جنوب القارة، لتستقر في العاصمة البلجيكية حيث تعمل مع إحدى المنظمات المرتبطة بالاتحاد الأوروبي.
تقول فرانشيسكا م. إن ما دفعها إلى ترك إيطاليا شيءٌ واحدٌ فقط، وهو غلاء المعيشة. ترى أن الحياة في بروكسل أكثر يسراً من العيش في شمال إيطاليا، حيث ترتفع كلفة المعيشة بصورةٍ لم تعد قابلة للتحمل في السنوات الخمس الأخيرة، أي قبل "كوفيد19" وبعدها.
الإيطالية الشابة منزعجةٌ بشدة من صعود اليمين، وهي ترفض المنطق الذي يروجه حول مسؤولية المهاجرين عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة في بلادها، وهي تقول إن وصول اليمين إلى السلطة في إيطاليا "سوف يزيد الأمر سوءاً"، وربما يكون ذلك مرتبطاً بعملها في صياغة السياسات الاجتماعية للدول النامية. أكثر من ذلك، فإنها تصف التصويب على المهاجرين بـ"حملة النفاق الفارغة بأهدافٍ سياسيةٍ محلية"، وترى أنها موجةٌ شعبوية غير دائمة.
لكنها، في المقابل، تعترف بأنها لا تجد إجابةً واضحة عن البديل المجدي لاستعادة بلادها القوة الاقتصادية، وبالتالي عودة مستوى المعيشة إلى الارتفاع.
وبين فرانشيسكا وسفيان، المختلفين في المنشأ، والمتفقين في مخاوفهما من المستقبل، ضبابٌ يحيط بمستقبل المواطن الأوروبي العادي، وبمن يعيش هناك من غير الأوروبيين أكثر.
هاتان القصّتان تمثّلان انعكاساً لتحولاتٍ عميقة في أحوال المجتمعات الأوروبية، وهي تحولاتٌ اقتصادية واجتماعية وثقافية، وتتمظهر في الصراع السياسي لتشكّل الخطاب والاتجاهات عند الأحزاب والشخصيات التي تعبّر عن هذه التفاعلات.
كما أن هذه التحولات لم تنشأ الآن، إنما هي سياق متراكم بخطوط متوازية ومتزامنة، زخّمتها الأزمة المالية العالمية الكبرى في عام 2008، وسرّعت مسارها أزمات العالم الثالث وحروبه، في أفريقيا والشرق الأوسط وأوكرانيا، فضخّت موجاتٍ جديدة من المهاجرين إلى أوروبا الغربية، وجاءت في طريقها مفاعيل "كوفيد 19" القاسية، لتفرض تدخل الدول في الاقتصاد من جديد، ثم في المرحلة الراهنة اجتمعت المعطيات كلّها مع وصول الصراعات الجيوسياسية إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، فأنتجت هذا الخوف الكبير عند كل مقيمٍ في القارة العجوز، مواطناً كان أم مهاجراً.