السوريون بعد الزلزال: صعوبات في تجاوز الأثر النفسي وصدمة الكارثة

لم تندمل الجراح السورية بعد الحرب والأزمة الاقتصادية الخانقة، حتى جاء الزلزال المدمّر وخطّ جرحاً جديداً في حكاية أوجاع السوريين، ليزيد من معاناتهم ويُضاعف من أوجاعهم.

  • سوريا تلملم جراحها.. الآثار النفسية للزلزال مستمرة
    سوريا تلملم جراحها.. الآثار النفسية للزلزال مستمرة

لا تزال سوريا تلملم جراحها بعد الكارثة الأخيرة من جرّاء الزلزال المدمّر، الذي أدى إلى وقوع آلاف الضحايا وأضرار مادية بالمليارات في الممتلكات العامة والخاصّة والبنى التحتية، بمحافظات حلب وحماه واللاذقية وإدلب.

فلم تندمل الجراح السورية بعد الحرب والأزمة الاقتصادية الخانقة، حتى جاء الزلزال المدمّر وخطّ جرحاً جديداً في حكاية أوجاع السوريين، ليزيد من معاناتهم ويُضاعف من أوجاعهم.

الصور ومقاطع الفيديو التي انتشرت عقب الفاجعة السورية كانت مؤلمة للغاية، فلا تزال صرخة الطفلة من تحت الأنقاض في مدينة حلب، وهي تقول: "عمو بشتغل عندكم خدّامة بس طلعني من هون" تحرق القلوب، بينما لا تغيب عن مخيلة السوريين صورة الطفل المغطى بالتراب الخارج من تحت الأنقاض في اللاذقية، والرجل المُسنّ الجاسي على ركبتيه أمام منزله الذي تحوّل إلى ركام في مدينة حلب.

تقول الشابة دانيا الغبرة (25 عاماً) للميادين نت: "لا يمكن وصف الحالة التي نعيشها اليوم، فكمية الدمار والوجع الموجود مخيف بكل معنى الكلمة"، وتضيف الغبرة: "نخطط ونحلم كثيراً طوال الوقت، لكن نكتشف أنه بلحظة واحدة ممكن أن يتغير كل شيء، ممكن أن نموت ولا نعود موجودين، إنه شعور مخيف حقاً، واليوم نحن لا نبحث إلا عن الأمان فقط".

وعن وضعها النفسي في الوقت الحالي، تقول: "عندما أفكر أو أشاهد الناس التي فقدت عائلاتها وهي تتعذب من هول الفاجعة، لا أستطيع النوم، ويصيبني هاجس الخوف من الموت داخل منزلي بالطريقة نفسها، وحينها تسودّ الدنيا بأكملها في عيوني"، وتستدرك الغبرة: "لكن رغم ذلك كلّه، أفرح عندما أشاهد الحملات الإنسانية في مختلف المدن والمحافظات لإغاثة المتضررين".

صدمة نفسية

حجم الكارثة في سوريا لا يقتصر على أعداد الضحايا والأضرار المادية الكبيرة، بل يصل إلى التأثير النفسي على السوريين، سواء الموجودون في المناطق المنكوبة التي ضربها الزلزال، أو حتى في المحافظات الأخرى، حيث يعيش الناس رعباً حقيقياً، بسبب الخوف من هزاتٍ أرضية جديدة قد تصيب مناطقهم.

تقول فاتن صوّاف من محافظة حمص للميادين نت: "لم أعش هذا الخوف طوال سنوات الأزمة؛ في وقت الحرب كنا نهرب إلى منازلنا للاحتماء بها، لكن اليوم أصبحت تلك المنازل مصدر خوفنا، ومنذ وقوع الزلزال وحتى اليوم أشعر أن هذه الليلة ستكون الأخيرة لي، هذا الشعور يعذبني ويحرمني النوم، كما أن صور الضحايا والمتضررين والمنكوبين والأطفال تحت الأنقاض لا تفارق مخيلتي، وأشعر أنني بحاجة إلى الابتعاد عن التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن لا أستطيع فعل ذلك".

لقد أدّت الكارثة الإنسانية غير المسبوقة في سوريا، إلى حدوث صدمة نفسية كبيرة لدى شرائح واسعة من السوريين، سواء ضمن المناطق المنكوبة أو المحافظات الأخرى، بينما خرجت تحذيرات عديدة تدعو إلى ضرورة التعامل النفسي الإيجابي مع الناجين من الزلزال أو حتى الذين كانوا شهوداً على الكارثة، لأن الآثار النفسية التي تلي الكوارث تكون في كثير من الأحيان أخطر صحيّاً، وخاصّة لدى الأطفال.

وفيما يتعلق بالطريقة الأمثل للتعامل مع الأطفال في مرحلة ما بعد صدمة الكارثة، يؤكد الخبراء النفسيون أن الأهم هو محاولة إبعاد الطفل عن محاولة إعادة إحياء الحدث الصّادم، عن طريق تجنيبه رؤية أيّ صور أو فيديوهات تتعلق بالزلزال وآثاره، كما يؤدي تشجيع الطفل على أنشطة تُبقي عقله مشغولاً بأمور أخرى غير الزلزال دوراً إيجابياً كذلك، والأمر المثالي في هذه الظروف هو محاولة بناء روتين مشابه لحياة الطفل ما قبل حدوث الزلزال والحصول على الرعاية الطبية النفسية المناسبة.

وفي هذا السياق، تؤكد الخبيرة النفسية آلاء رنكوسي للميادين نت أن النقطة الأهم تكون في التقرّب من الطفل ومنحه الأمان الكافي، والسماح له بالتعبير عن مشاعره بالصراخ أو حتى البكاء، وهذا الأمر يكون كاستجابة أولية، أما الاستجابة الثانية فتكون عن طريق التخفيف عن الطفل وإعادة دمجه بحياته الطبيعية من خلال استعادة الروتين الطبيعي الذي كان متّبعاً ما قبل الزلزال، إضافة إلى إبعاده عن وسائل الإعلام التي تعيد التذكير بالحادثة، مع وضع الطفل في التجمعات بشكلٍ دائم للقيام بنشاطات تناسب عمره.

أعراض جسدية نتيجة الصدمة النفسية

في كثير من الأحيان تظهر الصدمات النفسية على شكل أعراض جسدية، مثل الشعور بالدوار والإغماء والتعرق المفرط والارتجاف وآلام في الصدر وصعوبة في التنفس واضطرابات في المعدة ومشكلات في الذاكرة وآلام غير مبررة وغير ذلك.

الاختصاصيون النفسيون يؤكدون أن جميع هذه الأعراض تخفّ وطأتها مع مرور الزمن، إذا ما جرى التعامل معها طبيّاً بالشكل السليم، وإلا فقد يفتح المجال للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة، الذي قد تظهر أعراضه بعد شهر من حدوث الكارثة أو حتى سنوات، والإصابة به قد ترفع خطر الاضطرابات والمشكلات النفسية الأخرى مثل القلق والاكتئاب، واضطرابات في الأكل، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى السلوكيات الانتحارية.

تقول سناء قنبر من دمشق للميادين نت: "منذ وقوع الزلزال إلى اليوم لا أستطيع النوم بشكلٍ طبيعي، وأصبح توقيت 4.15 فجراً (توقيت حدوث الزلزال في سوريا) مصدر قلق لي ولعائلتي، وبدأت أتعرّض لنوبات من الهلع والهلوسة، وكل ليلة أتخيّل نفسي تحت الأنقاض، وهذا الإحساس يرافقني باستمرار ولا أظنه سيفارقني خلال وقت قريب".

أمام هذا الواقع أصبح من الضروري التعامل مع الآثار النفسية للصدمة بشكلٍ فعّال وتحرك على المستوى الوطني في هذا الاتجاه، حيث يشير الطبيب النفسي أحمد تاجي للميادين نت إلى أنه يجب إجراء إسعاف نفسي أولي للمصابين، حيث هذا النوع يُقدّم خلال الأيام الأولى من حدوث الكارثة، من خلال الرعاية النفسية والصحية للمرضى، وتأمين الاحتياجات الأساسية لهم، والاستماع لهم من دون ممارسة أي ضغوط عليهم.

ويضيف تاجي، أنه في حال عدم إجراء الإسعاف النفسي الأولي، يمكن أن يتطور الأمر إلى ما يُعرف باضطراب الشدة ما بعد الصدمة، وهذا الاضطراب خطير على الصحة إذا ما تم علاجه بشكلٍ سريع، ويكون العلاج عبر دفع الأشخاص المصابين للحديث عن مشاعرهم وأحاسيسهم بشكلٍ كامل، حتى يكون الأمر كمُتنفّس لهم حتى العودة إلى حياتهم الطبيعية.

الأمر لا يقتصر على المناطق المنكوبة

ووفق المختصين النفسيين، فإن استجابة الإنسان في الأيام القليلة التي تلي الكوارث تختلف من شخص لآخر، لكن مع استمرار إجهاد الجهاز العصبي بضغوطات نفسية ناتجة عن الخسائر البشرية والمادية الضخمة، فإنّ الإجهاد يتحول إلى أعراض نفسية تتراوح بين الخفيفة والشديدة، وغالباً ما تأتي وتختفي على شكل موجات، فعلى سبيل المثال قد يشعر المتضرّر بالتوتر والقلق والخوف والارتباك والغضب، فيما تساوره مشاعر انفصال وخدر تام في أوقات أخرى، وقد يصل به الحال إلى أن يشعر بالندم والعار لأنه نجا فيما قضى أهله تحت الأنقاض، وقد يجد نفسه غارقاً في مجموعة من المشاعر المتضاربة في آنٍ واحد.

جميع هذه المشاعر والأعراض لا تقتصر على الأشخاص الموجودين في المناطق المنكوبة، وإنما في جميع المحافظات السورية، حيث باتت تغطية الأخبار وتناقل الصور والفيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي متاحة بشكلٍ مكثف على مدار اليوم، والجميع يتعرّض لصور مروّعة للمآسي والمعاناة والخسارة، ما يمكن أن يربك الأجهزة العصبية لتخلق ضغطاً نفسياً مؤلماً تماماً كما لو كان الشخص عايَشَ الكارثة بشكلٍ مباشر.

تؤكد الطبيبة النفسية لانا سعيد للميادين نت أن الزلزال المدمّر سبّب صدمة نفسية عند الأشخاص الذين تأذوا بشكلٍ مباشر، ويعاني هؤلاء من أعراض "اضطراب الشدة الحاد"، ويعني "الخوف والتوتر والقلق"، وهذه الأعراض ناتجة عن ردّ فعل طبيعي لحادث يفوق قدرة الشخص على تحمّله، لذلك يجب على أولئك الأشخاص المحافظة على الروتين الذي كان متّبعاً قبل وقوع الزلزال مثل المحافظة على الهوايات المتابَعة والالتزام بمواعيد النوم والأكل نفسها، وبهذه الحالة يحافظ الشخص على مشاعر ما قبل الحادث.

مراكز الإيواء بحاجة إلى الدعم

بعد الكارثة الإنسانية التي أصابت اللاذقية، تم نقل آلاف الأشخاص إلى مراكز الإيواء لتقديم الرعاية اللازمة لهم، لكن نتيجة الكثافة الموجودة والمعاناة الكبيرة من الناس، بات الخطر النفسي على المتضررين أكبر، لذلك فإن الحاجة إلى حلول سريعة وفعّالة باتت مطلباً ملحّاً في الوقت الحالي.

وفاء حلّوم مسؤولة برامج الصحة العامة بمديرية الصحة في اللاذقية أكدت للميادين نت أنه تم تشكيل فرق صحية مختصّة في الجانب النفسي من أجل التعامل مع حالات الهلع والهوس والخوف ضمن مراكز الإيواء، حيث تم توجيه العمل في الأيام الأربعة الأولى التي تلت الزلزال على موضوع "تعزيز مفهوم الأمان"، خاصّة مع وجود هزّات ارتدادية ساهمت في انتشار القلق بين الأهالي.

وأضافت حلّوم أنه في الأيام التالية، بدأت فرق الصحة النفسية بإجراء جلسات مباشرة مع النساء والكبار في السن ضمن المراكز، من أجل تقديم الدعم النفسي وإزالة الخوف الموجود لديهم، لكن في المقابل أشارت المسؤولة إلى أن الدعم النفسي الأساسي لهؤلاء الأشخاص هو تأمين المسكن المناسب لهم، لأن معظمهم لا يتقبّل فكرة الوجود في هذا المكان بعد أن كان يملك منزلاً خاصّاً.

وعن الوضع داخل مراكز إيواء المتضررين في اللاذقية، تقول الصحافية جيلان الحسن للميادين نت إنه على الرغم من تنوّع ردود أفعال الأشخاص الموجودين في المراكز، إلا أن الصدمة النفسية من هول الكارثة واضحة على الجميع، فالبعض إلى الآن يشعر بالرعب والخوف من تكرار الكارثة في أيّ لحظة، حتى أن أغلبهم يظنّ أن زلزالاً قد وقع، مع كل حركة غريبة أو صوت قوي يحدث داخل المركز".

وتضيف الحسن: "تحدثت إلى سيدة في مركز المدينة الرياضية في اللاذقية خسرت زوجها وابنتها ومنزلها من جرّاء الزلزال، لكنها أخبرتني بتفاصيل الحادثة من دون أن يظهر على وجهها أيّ ملامح تأثر بالمصيبة التي تتحدث عنها، وكانت تتكلم ثم تصمت فجأة بشكلٍ غريب، ما يؤكد عدم إدراكها لما تقول".

أما أكثر المواقف التي تأثرت بها في المراكز، تقول الحسن: "بينما كنا ضمن صالة المدينة الرياضية في محافظة اللاذقية، استوقفني مشهد سيدة كبيرة إلى حدٍ ما في السن، تحمل في يديها صورة ابنها الذي استشهد خلال الحرب؛ لقد كانت تلك الصورة هي الشيء الوحيد الذي اصطحبته السيدة من منزلها الآيل للسقوط، وتقول لكل من مرّ بجانبها: لا أريد أن تقع الصورة على الأرض فيستشهد ابني مرة ثانية".

تضجّ مراكز الإيواء في اللاذقية بصرخات الأطفال، واستغاثات الأمهات، ونداءات الآباء المثكولين بأبنائهم، حيث تختزل تلك المراكز حكاية وطن منكوب؛ وطن لم ينهض بعد من ركام الحرب، حتى وجد نفسه بين أنقاض الزلزال المدمّر.