قَرابة توازي رابط الدم.. "الكريف" زائر الجزيرة السورية للاحتفاء بختان الذكور
تدلّ كلمة "الكريف" على الشخص الذي يحتضن الطفل حديث الولادة أثناء عملية الخِتان، أو ما يُعرف محلياً باسم "الطهور"، بهدف التخفيف عنه، حيث يتم اختيار شخص "الكريف" من قبيلة أو عشيرة أخرى أو حتى قومية أخرى.
في مجتمع لا يزال محكوماً بالأعراف العشائرية والقبلية التي تفرض نفسها على نمط الحياة لتشكّل نسقاً موازياً للقوانين المدنية، سعى أبناء الجزيرة السورية على مدى عقود من الزمن إلى تمتين روابط العلاقات الاجتماعية فيما بينهم، لتجاوز ما هو قائم على رابط العائلة أو العشيرة أو المنطقة، في سبيل استنباط قيم اجتماعية جديدة تعزز الترابط والتكافل المجتمعي فيما بينهم، ولعلّ أبرز التقاليد التي تعزز الأفكار السابقة هي "الكريف".
يعدّ "الكريف" أحد التقاليد الاجتماعية الموروثة التي تعبّر عن الترابط الاجتماعي والاندماج الأهلي في قرى وبلدات شمال شرق سوريا، فصِلة القرابة لا تقتصر على العائلة، وإنما تنضوي على معانٍ إنسانية أسمى وأعمق، وهذا ما يحمله "الكريف" من قيم الود والتكافل والحماية بين أبناء المنطقة الواحدة.
تقليد خاص بالجزيرة السورية
تدلّ كلمة "الكريف" على الشخص الذي يحتضن الطفل حديث الولادة أثناء عملية الخِتان، أو ما يُعرف محلياً باسم "الطهور"، بهدف التخفيف عنه، حيث يتم اختيار شخص "الكريف" من قبيلة أو عشيرة أخرى أو حتى قومية أخرى بقصد زيادة صلة القربى بين أبناء القرى والبلدات في مناطق الجزيرة السورية. وعادة ما تكون حكراً على مجتمع الجزيرة السورية.
عملية خِتان الأطفال الذكور بوصفها واجباً دينياً إسلامياً، حوّلها أبناء الجزيرة السورية إلى طقس اجتماعي يمتّن أواصر الصداقة والقرابة بين أبناء العشائر والقوميات المختلفة الموجودة في المنطقة، وغالباً ما يكون "الكريف" إما من أبناء العشائر المغايرة لعشيرة الطفل المختون، أو من أبناء القوميات الأخرى غير العربية، كالكرد والإيزيديين والسريان والآشوريين، وربما تتطور هذه العلاقة فيما بعد بين عائلة الطفل المختون وعائلة "الكريف" لتصبح أشبه بعلاقة قائمة على الدم.
ويشير الباحث التراثي أحمد الحسين للميادين نت إلى أن من يقوم بعملية الخِتان في منطقة الجزيرة السورية يُسمى "المطهّر العباسي"، ولما كانت عملية الخِتان تحتاج إلى مساعد للمُطّهر يحتضن الطفل ويخفف عنه آلامه، حرص الأهالي على اختيار ذوي المكانة الروحية والاجتماعية لخِتان الأطفال حديثي الولادة في أحضانهم، لما لذلك من رمزية معنوية واجتماعية لدى أسرة الطفل و"الكريف" على حدٍ سواء.
ويضيف الباحث الحسين: "منذ ستينيات القرن الماضي يطلق على حاضن الطفل اسم "الكريف"، وكان هذا المصطلح أكثر رواجاً وشيوعاً لدى العشائر الإيزيدية قبل أن يصبح مصطلحاً عاماً تتداوله جميع المكونات والقوميات في الجزيرة السورية"، ويتابع: "من أعراف هذا التقليد ما يتصل بمكانة الكريف وحرمته المعنوية التي تقوم على رابطة الدم الذي يسيل من الطفل على جسد الكريف، وبذلك يُعدّ من ذوي المحارم في اختلاطه وعلاقته بأسرة الطفل".
ويؤكد أن "الكريف" وفق الأعراف الاجتماعية لديه واجبات والتزامات وحقوق متبادلة، فالكريف يجلب كسوة الطفل المختون وكسوة أسرته، وتَردُّ الأسرة في وقت آخر بتقديم الهدايا للكريف وعائلته، وتتبادل الأسرتان الزيارات والدعوات فيما بينهما، وتنشأ لاحقاً علاقة تكامل بين الأسرتين من خلال المشاورة وأخذ الرأي بما يتصل بشؤون كل منهما، وفي معالجة بعض القضايا العامة.
وينوّه إلى أن بعض الأسر تختار "الكريف" لمصلحة خاصّة تتعلّق بمنصب رسمي أو موقع اجتماعي، رغبة منها في الاستفادة من هذه العلاقة، لكن صورة "الكريف" ظلّت أسمى وأنقى من هذه المصالح، لأنها تؤسس لرابطة أكثر صفاء ومودة.
موروث اجتماعي يواصل الأهالي الحفاظ عليه
ترافق تقليد "الكريف" في الغالب طقوس اجتماعية واحتفالات عامة، حيث تقام الولائم الكبيرة للتعبير عن الروابط الجديدة التي أنشِئت ما بين أسرة الطفل المختون وأسرة الرجل "الكريف".
ومن الطقوس التي كانت ترافق "الكريف"، رفع راية أمام منزل الطفل المختون، عليها بعض الصوف الملون، كعلامة على وجود طفل مختون في المنزل، وما إن يُطهّر الطفل حتى تطلِق النسوة كأمه وعمّاته وخالاته الزغاريد ويرددن الأغاني الجماعية، كما تقام بهذه المناسبة وليمة على شرف "الكريف" يذبح فيها بعض الخراف مع دعوة أهالي القرية للحضور، لكن هذه العادة تراجعت خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة الظروف المعيشية، وباتت تقتصر العزائم على عدد محدود من الأقارب.
كغيرها من العادات والتقاليد الاجتماعية، تأثرت "الكريف" بالأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تشهدها سوريا في الوقت الحالي، وأصبح الكثير ممن يقومون بختان أطفالهم لا يتخذون "كريفاً" حتى لا يتم تحميل الطرفين أعباء مالية تفاقم من أزماتهما المعيشية.
العشائر العربية في منطقة الجزيرة السورية ونتيجة تداخل مواقع قراها مع قرى أبناء القوميات الأخرى، كانت تحرص دائماً على إقامة هذا التقليد الاجتماعي، وتسعى لأن يكون "كريف" ابنها من وجهاء الكرد أو الإيزيديين من أجل تمتين العلاقة الاجتماعية والروابط الجغرافية بين العرب وأبناء القوميات الأخرى.
عارف السطام أحد وجهاء قبيلة "الجبور" في الجزيرة السورية يشير للميادين نت إلى أن انتشار أبناء القبيلة وعشائرها في منطقة مترامية جغرافياً وتداخل قراهم مع القرى الكردية والإيزيدية جعلهم يحرصون على توطيد علاقات الصداقة مع أبناء تلك القرى، عبر اختيار أحد وجهاء هاتين القوميتين من أبناء المنطقة ليكون كريفاً لأبنائهم.
ويشير السطام إلى أن علاقة "الكرافة" موجودة منذ عقود ولا سيما في مناطق الأرياف، وكانت في الماضي تأخذ طابعاً فريداً وترافقها طقوس احتفالية قد تمتد لعدة أيام، احتفالاً بالطفل المختون، وتكريماً للكريف ومكانته الاجتماعية الجديدة.
ويؤكد السطام أن مضافات القبيلة كانت تعجّ سنوياً بالعشرات من حالات الكرافة المتبادلة مع أبناء القبائل والعشائر الأخرى أو أبناء القوميات التي تجاورهم، لذلك فإن علاقة "الكرافة" بين عائلة الطفل المختون وأسرة "الكريف" لا تزال تحظى بالتقدير والاحترام المتبادل إلى اليوم.
اسم "الكريف" يرجع وفق بعض المصادر التاريخية إلى اللغة السنسكريتية، وتعني الأب الثاني، ولا تقل أهميته عن الأب الحقيقي، حيث يطلب والد الطفل المُراد ختانه من أحد الوجهاء أو الشخصيات ممن يتّصفون بالرجولة والبطولة والكرم، أن يتم ختان الطفل في حضنه، وهذا ما ينشئ قرابة بين عائلة الطفل وعائلة "الكريف"، وفي اللغة المحلية تتم تسمية أم الطفل وأخواته الإناث بـ"كريفي"؛ أما والده وإخوته الذكور فيُسمون "كريفو"، وهو لقب متعارف عليه بين العائلات المرتبطة برابطة الدم بعيداً عن صلة الرحم.
في الموروث الكردي كان الرجل سابقاً يهدي فرساً أو كبشاً لمن يريد أن يجعله كريفاً لابنه، وعند قبوله يحضر "الكريف" إلى الوليمة مع الهدايا واللباس للطفل ويدفع حساب المطهّر، كما يحضر معه يوم الاحتفال إلى بيت أهل الطفل بعض أهله من الرجال والنساء حاملين معهم الكثير من الهدايا الرمزية وحتى الذبائح حسب وضعهم المادي، فيبدأ الاحتفال الذي يستمر لأيام حيث تعقد الدبكات على أنغام الموسيقى الفلكلورية.
يقول فادي الأحمد من منطقة القحطانية في ريف الحسكة شمال شرق سوريا للميادين نت إن عادة "الكريف" منتشرة في المنطقة منذ عشرات السنين، وهي تهدف إلى زيادة الترابط الاجتماعي وتعزيز أواصر المحبة والألفة بين أبناء العشائر العربية من جهة وأبناء العشائر والكرد من جهة ثانية، حيث يصبح "الكريف" له قدرٌ يفوق الأخ والقريب، وكل شيء في المنزل مُباح له، إلا ما حرمه الله. وعادة ما يكون "الكريف" مُلزماً بالدفاع عن كريفه في كل ما يتعرض له كأنه أحد أبنائه أو أشقائه.
الكثير من العائلات في الجزيرة السورية لا تزال تحافظ على علاقة "الكرافة" إلى اليوم، رغم التقدم الطبي الذي أتاح إمكانية إجراء عملية "خِتان" الأطفال عند أطباء الجراحة ومن دون الحاجة إلى "الكريف"، لكن الأهالي يؤكدون ضرورة الحفاظ على هذا الموروث الاجتماعي الذي يعبّر عن الترابط والتآخي بين أبناء الجزيرة السورية.