في ظل الأزمة الاقتصادية.. هل يودّع السوريون "تكريزة رمضان"؟
يقول مواطنون سوريون إن تكريزة رمضان باتت تقليداً من الماضي لا يمكن لمعظم المواطنين القيام به، نتيجة الأوضاع المعيشية المتردية.
يقف محمود العيس (58 عاماً) وسط سوق الجمعة في العاصمة السورية دمشق، محتاراً أو ربما عاجزاً، في ظل عدم قدرته على تأمين كامل المستلزمات التي تحتاجها عائلته من المواد الغذائية قبيل شهر رمضان المُبارك، فالأسعار ترتفع يومياً بشكل لا يتناسب مع القدرة الشرائية لشرائح واسعة من السوريين، الأمر الذي يجعل وضعهم المعيشي سيئ للغاية، ويدفعهم للتخلّي عن كثير من الأمور التي كانت في يومٍ من الأيام أموراً بديهية.
العيس الذي بدت علامات اليأس واضحة على وجهه المتعب، لم يستطع اليوم الحصول على كامل الحاجيات التي يريدها، رغم اقتراب شهر رمضان وحاجة عائلته لها، إلا أنه اشترى فقط موادَ غذائية قليلة تتناسب مع المبلغ الذي بحوزته، مستغنياً عن اللحوم والفواكه وأمور باتت اليوم ضرباً من الرفاهية.
وفي ظل وضعه المعيشي الصعب، لم يستغنِ العيس عن بعض أنواع الطعام والشراب فقط، بل وصل به الأمر أيضاً إلى التخلي عن عادات وتقاليد خاصّة بشهر رمضان، مثل "تكريزة رمضان"، وهي نزهة عائلية إلى أحضان الطبيعة، تكون في الغالب إلى مناطق الغوطة المنتشرة على الأطراف الغربية والشرقية للعاصمة، قبيل الشهر المُبارك، بمثابة توديع لأيام الإفطار وتهيئة النفوس لاستقبال شهر الصيام.
ويقول العيس: "تكريزة رمضان باتت تقليداً من الماضي لا يمكن لمعظم السوريين القيام به، نتيجة الأوضاع المعيشية المتردية، فالشخص غير القادر على تأمين الطعام الذي يحتاجه في هذه الظروف، كيف له أن يفكر بالتكريزة التي تكلّف مبالغ مالية كبيرة؟".
التكريزة لاستقبال شهر رمضان المُبارك
لا تقتصر العادات والتقاليد المرتبطة بشهر رمضان المُبارك في سوريا على أيام الشهر الكريم نفسه، بل تبدأ ممارسة الطقوس الخاصة بشهر رمضان قبل أيام من حلوله، فالسوريون اعتادوا القيام بما يسمونه "تكريزة رمضان"، وهو تقليد منتشر في عموم المحافظات السورية، ويحافظ على وجوده إلى اليوم، لكن بنسبة أقل نسبياً من السنوات التي سبقت الأزمة، وذلك نتيجة للأزمة الاقتصادية التي فرضتها الحرب داخل سوريا، وهو ما أدى إلى حدوث تغييرات جوهرية في تقاليد المجتمع السوري.
نجلاء الخضراء المختصّة بالتراث الشعبي تقول للميادين نت إن التكريزة هي عبارة عن نزهة اعتاد عليها السوريون قبل حلول شهر رمضان المُبارك، حيث يخرجون إلى المنتزهات على شكل جماعات أسرية، وفي الغالب يتوجهون إلى مناطق الغوطة الشرقية أو إلى منطقة الربوة قرب نهر بردى.
وتضيف الخضراء: "كانت التكريزة مرتبطة في الغالب بالجو العائلي، فالأسرة تحضر معها كامل حاجياتها من الطعام والشراب ووسائل التسلية، مثل الآلات الموسيقية والألعاب التقليدية، الشطرنج والبرسيس، لإمضاء يوم من الصباح حتى المساء في أحضان الطبيعة".
وتشير الخضراء إلى أن "تكريزة رمضان" لم تكن مقتصرة في يوم من الأيام على طبقة اجتماعية معينة، بل كان معظم السوريون يمارسون هذا التقليد، ابتداءً من 15 شعبان وحتى نهاية الشهر، أما الهدف من فكرة التكريزة فهو الحفاظ على النسيج الأسري والعلاقات الاجتماعية وصلة الرحم، إضافة إلى الترحيب بقدوم شهر الصوم وتوديع شهر شعبان.
التكريزة تسبق بداية شهر رمضان، وتترافق غالباً مع بدء انتشار الحلويات الرمضانية في الأسواق، حيث تعلن محلات "المعروك" والناعم" و"القطايف" والحلويات العربية" والمشروبات بأنواعها المختلفة اقتراب حلول الشهر الكريم بعرضها لأنواع الطعام والشراب الخاصّة بهذا الشهر، حيث تتحول الأسواق إلى خلية نحل تضج بالزائرين.
الأوضاع الاقتصادية حرمت السوريين من التكريزة
خلال السنوات الماضية، لم تعد "تكريزة رمضان" جزءاً أساسياً من التقاليد الخاصّة بشهر رمضان المُبارك لدى السوريين، نتيجة الوضع الأمني الذي كان سائداً في بداية الحرب؛ ولاحقاً بعد تحسن الوضع الأمني نسبياً، جاءت الأزمة الاقتصادية والمعيشية لتقف حاجزاً أمام ممارسة التقاليد التي اعتاد عليها السوريون لسنوات طويلة.
وعن تأثر بعض العادات والتقاليد بالأزمة الاقتصادية التي تعيشها سوريا، تؤكد الصحافية غصون سليمان للميادين نت أن الظروف المعيشية فرضت نفسها على المجتمع السوري بكل تجلياته، حيث بدأت عادات وتقاليد عديدة بالاختفاء تدريجياً، ولعلّ أبرزها "تكريزة رمضان" التي تعتبر من التقاليد الأساسية للسوريين قبيل حلول الشهر الكريم.
وتضيف سليمان: "في السابق لم يكن من الصعب على الأسرة تأمين اللحوم والخضار والفواكه وباقي الحاجات الضرورية للمنزل، كما كانت المحروقات متوفرة بشكلٍ جيد، ووسائل النقل والمواد الغذائية تكلفتها منخفضة مقارنةً بالقدرة الشرائية للسوريين".
كما تؤكد أن قلة من السوريين اليوم يواظبون على "تكريزة رمضان"، في ظل "بورصة" الأسعار المتصاعدة بشكلٍ يومي والغلاء الفاحش الذي يضرب جميع قطاعات الحياة وتنعكس على المواطن بشكل مباشر، حتى باتت "التكريزة" مجرد صورة في أرشيف ذكريات السوريين.
لا تقتصر الأزمة المعيشية في سوريا على أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية فقط، بل وصلت إلى أجور وسائل النقل العامّة والخاصّة، التي ازدادت خلال سنوات الأزمة، نتيجة الشح المستمر في المحروقات داخل البلاد، حيث أدت أزمة المواصلات إلى حرمان السوريين من التنقل بحرية كافية، والقيام بنزهات ورحلات للترويح عن أنفسهم، كما كانوا يفعلون في السابق.
حمد شرف (47 عاماً) أب لثلاثة أولاد يقول للميادين نت: "لم تعد تكريزة رمضان بمفهومها الأصلي تقليداً أساسياً نتيجة لظروف اقتصادية معروفة، فاليوم لا يمكنني الذهاب مع أسرتي في نزهة إلى غوطة دمشق أو ريفها الغربي مثل بلودان والزبداني لأنها ستكلفني عشرات الآلاف، وأظن أن هذا الأمر ينطبق على معظم السوريين، لذلك نحن اليوم نختزل فكرة التكريزة بجلسة عائلية داخل المنزل أو ضمن الحدائق العامة مع بعض الحلويات البسيطة التي تتناسب مع إمكاناتنا المادية".
اليوم، لم يعد السوريون يبحثون عن وسائل الراحة والرفاهية، التي باتت ضرباً من الماضي الذي يحنون إليه بألم وحسرة، بل إنهم يصارعون طوال اليوم بأكمله لسد رمقهم وتأمين قوت نهارهم، في ظل الصعاب الاقتصادية التي تلازمهم منذ سنوات، حيث بات لزوماً عليهم السعي في أكثر من اتجاه للتأقلم مع الارتفاع المستمر للأسعار.