فلسطين في إطار ميلاد وسناء ووليد دقة.. كلّ هذا الحب كلّ هذا النضال
لعلّ يقين سناء بعودة وليد ومقاومته لكلذ محاولات الإماتة والتغييب التي تعرض لها خلال وجوده في السجن على مدار 38 عاماً، يأتي من إيمانها المطلق بقوة روحه وصلابة إرادته.
بعد ساعات قليلة من وصول نبأ استشهاد الأسير وليد دقة إلى مسامع عائلته في مسقط رأسه بلدة باقة الغربية الواقعة شمالي فلسطين المحتلة في السابع من نيسان/أبريل عام 2024، كانت ميلاد، طفلة وليد وسناء دقة، تلعب في زينة عيد ميلادها الأخير في منزل والدها الكائن في منتصف البلدة. ميلاد التي انتزعها الاثنان عنوة عن جبروت السّجن والسجان، فكانت نطفة محررة، وأصبحت اليوم طفلة يتيمة تبلغ من العمر أربع سنوات.
احتفلت ميلاد بعيد ميلادها في شهر شباط/فبراير الماضي، لكنها لا تزال مصرّة بالاحتفاظ بالزينة معلقةً على جدران البيت حتى مجيء والدها للاحتفال معها. توقفت ميلاد فجأة عن اللعب، وقالت لي من دون أي سياق ذي صلة: " إمي نزلت تحت تعزّي بأبوي".
تسقط اللغة والبلاغة أمام القهر المختبئ بين ثنايا جملة ميلاد وخلف حروفها، وكأنها تُدرك برغم طفولتها المشرقة، أنّ والدها لن يعود بعد الآن، وأنَّ أُمها ستبقى تقاتل من أجله حتى بعد رحيله، وكأنهم الثلاثة، وليد، سناء، وميلاد، يجسدون ثلاثية مقدسة لحكاية فلسطين الجريحة.
ثلاثية ميلاد وسناء ووليد دقة
تزوّج وليد وسناء بعد تعارفهما كأسير وصحافية مهتمّة في شؤون الأسرى، جمعهما حوار عن آلام السجن وطرق مقاومته. في العاشر من آب/أغسطس لعام 1999، في غرفة صغيرة في سجن عسقلان، في مشهد سريالي، خلق فيه الاثنان زمنهما الموازي، وذلك بعد سلسلة معارك مطلبية وقانونية خاضها الاثنان مع إدارة مصلحة السجون لسنوات طويلة، ليتحقق لهما مرادهما، وينتزعا حقهما بالارتباط الأبدي عبر عقد القران والتقاط الصور بوجود عدد محدد من عائلتهما وبعض الأسرى من داخل السجن، وحينها استطاع الزوجان أن يسجّلا للتاريخ، الزفاف الأوحد في تاريخ الحركة الأسيرة.
لم يكتفيا بذلك، بل استمرّا بالقتال ضد هذه المنظومة الاستعمارية لانتزاع أكثر المطالب إنسانية بحق أنفسهما، فبعد حفل الزواج، أرادا بناء الامتداد الطبيعي لهما عبر تشكيل العائلة، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، ظلّ الاثنان يحاولان تحقيق ذلك، حتى نجحا بعد عشرين عاماً بإنجاب "ميلاد" غبر نطفة محررة لتكتمل العائلة، وتُجسد الأسطورة ثلاثية البطولة: وليد دقة المفكر الفذ والمناضل الإنسان والأب الوفي، سناء سلامة أصلب النساء المقاتلات وأقوى الأُمهات، وميلاد الطفلة التي "جعلت من اسمي جملة مفيدة، ومعنى متجدد لا ينهيه الموت: ميلاد وليد دقة".
وأمام هول سقوط أعمدة هذه الثلاثية تحت نيران الإهمال الطبي، وعبر فعل الاغتيال المباشر لجسده، تجلس سناء في بيت العائلة تستقبل المعزيين، وهي تتساءل بصوت عالٍ وواضح: "هل يعقل أن لا يفي وليد بالوعد؟ هل يعقل أن يذهب بعيداً قبل أن نحقق اللقاء التام، أنا وهو وميلاد في بيتنا الصغير؟ هل يعقل أن يكون هناك حياة لا وليد فيها بعد الآن؟ كان صوته عبر الهاتف وكلماته تعبد لنا جسراً من الأمل في أرواحنا، نكمل عبره الطريق، ونتحمل من أجله الألم، فنحيا ما تبقى من الأيام، لكن الوضع الآن اختلف".
فـ"المستهدف هو الحب وذوقك الجمالي والإنساني"، يقول وليد دقة.
غياب طويل
لم ترَ سناء وميلاد وليد منذ الزيارة الأخيرة لهما في شهر أيلول/سبتمبر عام 2023، ولم يسمعا صوته منذ تاريخ السابع من أكتوبر، وطوال هذه الأشهر، تعيش سناء قلقاً دائماً على صحة وليد، وتحاول دائماً أن تتخيل مشاعره وهو يواجه المرض والعزلة وحيداً، لكنها كانت على يقين بأنه سيتجاوز المحنة كما تجاوز العشرات قبلها، ولم تهّيئ نفسها أو تهيّئ ميلاد لإمكانية رحيل والدها، بل كانت تخاطب نفسها وابنتها قائلة: وليد سيعود قريباً.
لعلّ يقين سناء بعودة وليد ومقاومته لكلذ محاولات الإماتة والتغييب التي تعرض لها خلال وجوده في السجن على مدار 38 عاماً، يأتي من إيمانها المطلق بقوة روحه وصلابة إرادته، ووفائه بالعهود تجاه النساء الثلاثة في حياته، أمه فريدة وحبيبته سناء وابنة صلبه ميلاد.
يقول وليد في إحدى رسائله من السجن: "كان للروابط الأُسرية دوراً كبيراً في تعزيز قدرتي على تحمل عبء سنوات الأسر الطويلة، ولا سيما أُمي فريدة، وزوجتي سناء التي ربطت مصيرها بمصيري. هذه العاطفة الإنسانية، وهذا الحب الكبير الذي أحاطتني به سناء، لم يعززا قدرتي على الصمود فحسب، بل منحني حبها القدرة على إعادة إنتاج ذاتي كتابة وإبداعاً. إن سناء جعلت زمني في السجن خطاً مستقيماً صاعداً نحو المستقبل الذي نسير إليه برغم محيطات العنف والكراهية، بزورقنا الصغير الذي صنعناه من نعناع وريحان الحياة، حتى نصل به إلى شاطئ المستقبل ليكون ميلاداً جديداً".
أثر الفراشة لا يزول
قد يكون صحيحاً أنّ جسد مفكر السجون، والإنسان المّحبّ الذي أمسك على حبه قابضاً عليه كما لو كان الجمر، معلناً صموده ونصره بهذا الحب على سجانه، قد رحل، لكن الأثر الذي تركه نصه ولغته وفكره، سيبقى محفوراً في أذهان ووعي شعبه مدى الحياة، فآلاف الطلبة في فلسطين اليوم يحفظون عن ظهر قلب نصوص دقة، وآلاف الباحثين يعتمدون على نظرياته كمنهجيات بحث أصيلة يكتبون على أساسها أوراقهم البحثية، وآلاف الأسرى يحاربون محاولات صهر وعيهم داخل السجن، وما بين هذا وذاك، ستبقى ميلاد، الامتداد الحقيقي لإرث وليد دقة وأثره، تزرع الوادي سنابل، وتكمل مسيرة بدأها والداها، برفض الظلم والبحث عن الحريّة، ومعها جيشها الوحيد والأقوى، أُمها سناء التي ستكمل القتال من أجل تحرير جثمان وليد المحتجز في ثلاجات الاحتلال، برفقة 25 جسداً آخر لرفاقه الأسرى، وكاسرة جمود زمنه الموازي الذي امتد لـ38 عاماً، لينتقل إلى زمنه البرزخي.