غزة وأوكرانيا والمهاجرين.. كيف تؤثر السياسة الخارجية على قرار الناخب الأميركي؟
تستولي قضايا السياسة الخارجية على اهتمام الناخب الأميركي عندما تتزامن مع أزمات دولية كبرى، ويكون لتلك القضية انعكاس واضح على الداخل الأميركي، لا سيما حين يكون التباين جلياً بين المرشحين بشأن تلك القضايا، ما يجعلها عامل ترجيح لمصلحة أحد المرشحين على الآخر.
تستحوذ السياسات المتعلقة بالمشهد الداخلي والمسائل اليومية على جلّ اهتمام الناخب الأميركي، وتتحدّد نتائج الانتخابات الرئاسية في البلاد وفقاً للقضايا المحلية في أغلب الأحيان، ومع ذلك، قد تصبح قضايا السياسة الخارجية عاملاً حاسماً في الانتخابات، وقد تؤثّر قضية عالمية أو حرب معينة، من حين إلى آخر، على اختيار الناخبين الأميركيين.
وتستولي قضايا السياسة الخارجية على اهتمام الناخب الأميركي عندما تتزامن مع أزمات دولية كبرى، ويكون لتلك القضية انعكاس واضح على الداخل الأميركي، لا سيما حين يكون التباين جلياً بين المرشحين بشأن تلك القضايا، ما يجعلها عامل ترجيح لمصلحة أحد المرشحين على الآخر، ويعيدنا التاريخ إلى عام 2008، حين أدى استياء الناخب الأميركي من الحرب على العراق إلى وصول الرئيس باراك أوباما إلى سدّة الحكم.
ويبدو أن الانتخابات الأميركية المقبلة تسير في هذا الطريق، مع دخول حرب أوكرانيا عامها الثالث، وتصاعد المنافسة الاستراتيجية الأميركية والتحدي الاقتصادي مع الصين، بحيث أصبحت مناقشات السياسة الخارجية تشهد اهتماماً متزايداً من قبل الأميركيين، بل إن مسألتي تأمين الحدود والعدوان الإسرائيلي على غزة قد أثّرتا بشكل مباشر على اختيار الناخبين في الانتخابات التمهيدية لهذا العام.
وتكشف استطلاعات الرأي أن مزيداً من الناخبين الأميركيين تشغلهم قضايا السياسة الخارجية مؤخراً، ووفقاً لاستطلاع نشرته وكالة "أسوشيتد" الأميركية في مطلع العام الجاري، فإن حوالى 40% من الأميركيين يعتبرون السياسة الخارجية نقطة محورية، ويدعمون بذل الحكومة مزيداً من العمل بشأنها، كما تشير الاستطلاعات إلى أن هذه النسبة قد ارتفعت إلى الضعف مقارنة بالعام الماضي.
وتشغل الناخب الأميركي مجموعة من القضايا الدولية، من أبرزها مساهمة الدولة في الحروب الخارجية وتقديم المساعدات العسكرية، وتأمين الحدود الجنوبية، ومسائل الأمن القومي، ومصالح أميركا في العالم، والحفاظ على دورها كدولة عظمى. وتمثل هذه القضايا موضع خلاف في المجتمع الأميركي، ويدور النقاش فيها حول التوجه العام للحكومة بشأن تلك القضايا، والمسائل المتفرعة عنها، والسياسات المتبعة في التعامل معها، وتأثيرها على الوضع الداخلي في البلاد.
الحروب والمساعدات العسكرية
تتعارض التدخلات العسكرية الأميركية في مناطق مختلفة من العالم مع تفضيلات الناخب الأميركي، وتظهر استطلاعات الرأي أنّ الناخبين الأميركيين قلقون بشأن تورّط بلادهم في حروب مفتوحة تجري في بقاع مختلفة من العالم.
وقد أدّت الخلافات حول الحرب الإسرائيلية على غزة، إلى اندلاع موجة احتجاج صاخبة من قبل الناخبين الشباب الرافضين للدعم الأميركي المستمر لـ"إسرائيل"، وامتدت النقاشات حول المسألة إلى جميع فئات الشعب داخل الولايات المتحدة.
ويمثل الناخبون الشباب جزءاً أساسياً من قاعدة الدعم الطبيعية للديمقراطيين، وأدى موقفهم الرافض للإبادة إلى انقسام حادّ بين الديمقراطيين، وانضمّ إليهم مجموعات من الأميركيين العرب والمسلمين، الذين يعارضون المساعدات العسكرية الأميركية لـ"إسرائيل"، ويدعمون ضغط الحكومة الأميركية على "إسرائيل" من أجل وقف فوري للحرب.
وبحسب استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث في نيسان/أبريل من العام الجاري، يؤيد أكثر من نصف الأميركيين، بنسبة وصلت إلى 55%، مشاركة الولايات المتحدة في إنهاء الحرب في غزة، ولكن الغالبية يفضلون لعب دور ثانوي أكثر من أن يكون لأميركا دوراً فاعلاً ورئيسياً، بينما يرغب نحو 27% من الناخبين، ألا تلعب الولايات المتحدة أي دور على الإطلاق.
ومع خروج الرئيس جو بادين من السباق، أبدى بعض زعماء الجاليات العربية والمسلمة والنقابات الرئيسية المناهضة للحرب في الولايات المتحدة ارتياحاً من اختيار كامالا هاريس مرشحاً رئاسياً، باعتبارها تقف موقفاً أكثر اعتدالاً من بايدن في هذه القضية. وقد كانت هاريس دقيقة عند اختيارها نائبها حاكم ولاية مينيسوتا تيم والز، حرصاً على الحفاظ على وحدة الحزب، وأملاً في حشد دعم أكبر بين الناخبين الديمقراطيين من الشباب والعرب الأميركيين واليساريين المعارضين للحرب، وقد أدى اختيار والز إلى تهدئة التوترات في قاعدة الحزب الشعبية، التي كانت قلقة بشأن اختيار منافس آخر قد يذهب بعيداً في دعمه للاحتلال الإسرائيلي.
ومع ذلك، سعى العديد من المشاركين في تجمع انتخابي للحزب الديمقراطي في ولاية ميشيغان إلى توجيه رسالة تحذيرية لكامالا هاريس، من خلال مقاطعتها أثناء إلقائها كلمة أمام الحشود، وترديد شعارات مؤيدة للفلسطينيين، قائلين: "كامالا! كامالا! لا يمكنك الاختباء، لن نصوّت للإبادة الجماعية".
وتمثل الحرب في أوكرانيا قضية أخرى تشغل الأميركيين، ويشكو الأميركيون من كثرة مساعدات بلادهم المقدمة إلى أوكرانيا، ويجمع غالبية الأميركيين على ضرورة إنهاء الحرب، وقد أدت هذه المشاعر السلبية المتزايدة إلى صعوبة تمرير الكونغرس الأميركي لحزمة عسكرية جديدة لأوكرانيا.
ويبدو الناخبون الجمهوريون أكثر معارضة لانخراط الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية، وبحسب استطلاع لمركز "بيو" للأبحاث، أُجري في تموز/يوليو الماضي، يرى حوالى 75% من الجمهوريين أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لا تشكل تهديداً كبيراً للمصالح الأميركية، وبالتالي يعتقد معظمهم أن الولايات المتحدة لا تتحمل مسؤولية مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد العملية العسكرية الروسية، وأن المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لأوكرانيا حاليّاً أكثر مما ينبغي.
ويستغل المرشح الجمهوري دونالد ترامب حربي غزة وأوكرانيا للترويج لنفسه في حملته الانتخابية، والتعريض بضعف الإدارة الحالية التي سمحت بقيام الحربين في غزة وأوكرانيا، وأشار إلى عدم قدرة الديمقراطيين على مجابهة المشكلة، مؤكداً للناخبين قدرته على إيقاف الحروب بشكل نهائي.
وإلى حد بعيد، تكمن تفضيلات الناخبين في الولايات المتحدة بالنسبة للحروب التي تدعمها الولايات المتحدة من منظور تأثيرها على الوضع الداخلي، فإن ميزانيات الدفاع المتزايدة، والمساعدات التي تنفق على الحروب الخارجية تُشكِّل همّاً إضافياً لدى الأميركيين، الذين يتوقعون من الحكومة خفض ميزانيات الدعم الخارجي لمصلحة رفع المستوى الاقتصادي في البلاد وتحسين الوضع المعيشي الداخلي.
تعزيز أمن الحدود
يسعى الجمهوريون في حملتهم الانتخابية إلى صياغة قضية الحدود الجنوبية مع المكسيك باعتبارها أزمة تتطلب استجابة عسكرية مماثلة للطريقة التي تساعد بها الولايات المتحدة أوكرانيا و"إسرائيل"، وتأليب الناخبين على الديمقراطيين الذين فشلوا- برأيه- في حل المشكلة.
بينما تعمل هاريس على جذب الناخبين المعتدلين من دون تنفير الديمقراطيين اليساريين، لذلك تتجنب إلغاء تجريم الهجرة إلى الولايات المتحدة، وتحاول أن تتبنى نظرة عالمية مرنة، تتماهى مع واقعها كابنة مهاجرين، وتظهر ميلاً أكبر لإيجاد حلول جذرية للمشكلة بالتعاون مع دول الجوار.
ويتعلق بهذا المحور مجموعة من القضايا الرئيسية، مثل: انعدام الأمن على الحدود الجنوبية مع المكسيك، وسياسات الهجرة، والعلاقات التجارية مع دول أميركا اللاتينية، والتعاون معها في مجالي مكافحة الجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات، وكلها قضايا مهمة للناخب الأميركي، وهي مرتبطة بشكل مباشر بأميركا اللاتينية.
ولا يمكن لأي من المرشحين التغاضي عن أصوات الأميركيين من أصول لاتينية، حيث يشكل الناخبون اللاتينيون في هذا العام وفقاً لمركز "بيو" للأبحاث، ما يقرب من 15% من إجمالي الناخبين، بواقع يصل إلى 36.2 مليون ناخب.
وقد ظهر انخفاض واضح في دعم اللاتينيين للديمقراطيين في السنوات الأخيرة، وقد وصل دعمهم إلى أدنى مستوياته قبل انسحاب بايدن من السباق الانتخابي، ولعلّ ترشيح هاريس يحوّل الكفة مرة أخرى إلى اكتساح الديمقراطيين لأغلبية الأصوات اللاتينية، فقد عزّز ترشيح هاريس حماس المؤيدين اللاتينيين للديمقراطيين، وخصوصاً بعد اختيار والز نائبًا لها، وهو الأمر الذي قد يستقطب مجتمعات الطبقة العاملة الريفية التي تشمل أغلبية من السكان اللاتينيين.
ويثير تدفق المهاجرين غير النظاميين الناخبين الأميركيين، الذين يربطون بين المهاجرين وبين انعدام الأمن الحدودي وزيادة التزاحم على الوظائف والرعاية الاجتماعية التي يموّلها دافعو الضرائب الأميركيون، ويشكو الحكام الديمقراطيون من الضغط على موارد الولايات، ويسعون للحصول على المزيد من التمويل من الإدارة الفيدرالية لمعالجة الحاجة إلى الدعم الاجتماعي للمهاجرين غير المسجّلين، بحيث بات المواطن الأميركي العادي يعتبر المهاجرين غير الشرعيين عبئاً على موارد مدينته.
السيادة وحماية المصالح الأميركية
ينظر الناخبون الأميركيون للرئيس المنتخب كزعيم قادر على جعل أميركا أقوى، وتشير قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي بالنسبة للأميركيين إلى قدرة الرئيس على الوقوف في وجه خصوم أميركا، وحماية مصالحها وأمنها القومي، والحفاظ على مكانتها على الصعيد الدولي.
ولعل الصين وروسيا يُصنفان محلياً في الولايات المتحدة، كأكبر التهديدات الخارجية التي تواجه البلاد، وتشغل هذه القضية أذهان الناخبين الأميركيين، حيث يرى نحو نصف الأميركيين أن الحد من قوة ونفوذ روسيا والصين يشكل أولوية قصوى، وتأتي كوريا الشمالية وإيران في المرتبة الثانية في هذا الجانب، وبالتالي فإن تحديد السياسة الخارجية المتعلقة بتلك البلدان سيكون معياراً معتبراً لتقييمات الناخبين.
ويركز الناخبون الأميركيون الأكبر سناً على ضرورة حفاظ الولايات المتحدة على تفوقها العسكري، والحد من قوة ونفوذ الصين وروسيا، بينما يولي غالبية عنصر الشباب تحت سن الـ30، اهتماماً أكبر إلى قضايا أخرى تمثل أولوياتاتهم في السياسة الخارجية للبلاد، أبرزها تغير المناخ العالمي، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، واتخاذ التدابير لحماية الولايات المتحدة من الهجمات الإرهابية.
ولا تحظى قضايا مثل: دعم الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي وتعزيز حقوق الإنسان في البلدان الأخرى، وقيادة العالم نحو استكشاف الفضاء وتعزيز الديمقراطية العالمية ومساعدة اللاجئين الفارّين من العنف، بأولوية كبيرة من وجهة نظر الأميركيين، وفقاً لاستطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث في نيسان/أبريل الماضي.
وعلى وجه العموم، لا تأخذ السياسة الخارجية الأميركية حيزاً ضخماً من اهتمام الناخب الأميركي، إذ يرتبط اهتمام الناخبين بالسياسة الخارجية في الولايات المتحدة باعتبارات تتعلق غالباً بالقضايا الداخلية، ولا تنفصل عنها، ويتطلب ذلك من المرشح الذي سيشغل البيت الأبيض أن يكون تركيزه منصباً على "أميركا أولاً"، ومن غير المرجح أن تؤثر قضايا أوكرانيا والشرق الأوسط والصين والشؤون العالمية بشكل أولي على اختيارات الناخب الأميركي، ولكن هذه القضايا مؤثرة في الانتخابات بقدر انعكاساتها على المستوى المحلي، كما تشكل معياراً يقيس به الناخبون قوة الرئيس المرتقب، وقدرته على ترسيخ دور أميركا في العالم.