عين فيت المحتلة.. القرية السقّاءة جذورها في الجولان وظلالها على دمشق
لا يزال سكان قرية عين فيت المحتلة يحتفظون بمفاتيح بيوتهم النحاسية الكبيرة، والتي تحمل هويتهم في ذاكرة المكان وتفاصيله، فأملهم بالعودة باقٍ، وإن طال الزمن، إلى تلك البيوت التي دمرها الاحتلال بعد عدوان حزيران/يونيو.
من الجولان المحتل، قصة نزوح مريرة، ورحال حطّت في ضواحي دمشق، ليغرس السوريون الجولانيون جذورهم المتألمة من جديد، ويبدؤوا رحلة حياة. رحلة فيها من الصبر والمعاناة والكفاح والنجاح في جميع النواحي، رافدين المجتمع السوري بقامات علمية وثقافية وفنية. أجسادهم تسرح هنا، أمّا بوصلة قلوبهم فما زالت متجهة نحو عين فيت الجولانية، مسقط الرأس ومربى الآباء والأجداد.
يمتد الجولان على مساحة 1200 كم2، يحضن الخاصرة الجنوبية الغربية السورية. هناك، على بعد 60 كيلو متراً من العاصمة دمشق، تتربع قرية عين فيت في الجزء الشمالي الغربي من الجولان، بالقرب من جنوب لبنان وسهل الحولة في فلسطين، حدودها من الشمال جبل الشيخ، ومن جهة الغرب نهر الأردن وسهل الحولة في فلسطين المحتلة، وهي إحدى القرى المحتلة التابعة لمركز مسعدة، تقابلها قرية عين قنية، ويمر غربها خط أنابيب النفط "تاب لاين".
عين فيت واحدة من عشرات القرى في هضبة الجولان التي وقعت تحت ظلم التهجير القسري، بهدف إفراغ القرية بشكل كامل، ما أجبر أهلها على النزوح باتجاه العمق السوري من العاصمة دمشق، وذلك في حرب الأيام الستة من شهر حزيران/يونيو سنة 1967، وهي ما تسمى بنكسة حزيران/يونيو 67.
الطبيعة في عين فيت باهرة ومتناسقة، إذ تتلاقى الأحياء والبيوت بالأشجار والأزهار، وتكثر الساحات وتتسع الشوارع ويسود الجو الريفي النقي المعتدل. هي من القرى التي كانت موفورة الخيرات بسبب نشاط سكانها، واتساع حقولها ذات التربة الخصبة، وتنوّع ثمار بساتينها التي ترويها المياه العذبة والوفيرة.
القرية المهجّرة والمهدّمة لها تاريخ عريق يفوح برائحة الوحدة وشبح الصمت، بعد أن رُحّل أبناؤها عن أرضها. تضاريسها وأزقتها تحكي لكل العالم تفاصيل ظلم وقع عليها، وكل حجر فيها يروي حكايات الغدر التي طالت أبناءها، بعد أن كانت هذه البيوت تحتضنهم وتحميهم، أصبحت اليوم شاهداً على حقهم وقضيتهم.
التمسك بما تبقى من الأرض
لا يزال سكان القرية يحتفظون بمفاتيح بيوتهم النحاسية الكبيرة، والتي تحمل هويتهم في ذاكرة المكان وتفاصيله، فأملهم بالعودة باقٍ، وإن طال الزمن، إلى تلك البيوت التي دمرها الاحتلال بعد عدوان حزيران/يونيو، والتي بلغ عدد سكانها أيام النزوح 3 آلاف نسمة، إذ تعد أكبر قرية في الجولان من حيث المساحة بعد قرية مجدل شمس.
أحمد الخطيب (81 عاماً) حدّث الميادين نت قائلاً: "نزحت عندما كنت في الـ27 من عمري، في ذاكرتي كانت أجمل القرى في الهضبة، فهي قرية قديمة يرجع تاريخها إلى العهد الآرامي، وكلمة فيت في الآرامية تعني العين الجميلة والبهية، تكثر فيها عيون المياه الجارية العذبة التي تطفو فوق الأرض"، و تبلغ ما يقارب 40 عيناً، منها: عين فيت، عين الزرقاء، عين الصفرا، عين الخنازير، عين الديسة، نبع البحريات، نبع البارقيات، إضافة إلى العيون التي تفيض شتاء، ويعدّ نبع عين فيت واحداً من أندر 3 ينابيع في العالم من حيث العذوبة والنقاء ودفء مائها في فصل الشتاء، وبرودتها في فصل الصيف.
وتابع: "تحت كل شجرة كان لنا أحلام، وفي كل زاوية من زوايا القرية المدمرة شاهد حي على المأساة التي ذقنا مرارتها، فأصبحت وأبناء جيلي نحكي ونؤرّخ قصة تهجيرنا من قرانا إلى الوطن السوري، كم دفن لنا أحبّة هناك قبل أن يغادروا أرضهم! أما عن العين فهي تحمل في جعبتها حكايات الحب والغزل وأحاديث وذكريات لكل من وقف أمامها ينتظر جرة الماء لتمتلئ ويشرب من مائها العذب".
سنرجع يوماً إلى حيّنا
بهذه العبارات بدأ علي حمدان (68 عاماً) حديثه إلى الميادين نت مسترجعاً ذاكرة الطفولة عندما كان يسير في طرقات قريته، ويأكل من خيراتها، ويشرب من ماء عينها البهية، أرضها المباركة التي يصفها بقطعة من الجنة بكل تفاصيلها، يتحسر أحمد على ما ضاع من عمره وهو محروم من العودة إلى أرضه قائلاً: "أي يرجعونا عليها بعدين تعودنا عالضرب والقصف عادي.. كل الكبار نذروا يرجعوا حافيي الأقدام بس ترجعلنا أرضنا".
55عاماً لم يستطع الاحتلال محو هوية الجولانيين أو سرقة عاداتهم وجذورهم، فمنذ تهجيرهم من أرضهم حتى اليوم، اعتادوا تخصيص أوقات ليجتمعوا ويبحثوا ويجولوا في معالم ذاكرتهم وأراضيهم وبساتين قريتهم، فالحرمان زاد تعلقهم بأبسط تفصيل يمكن أن يدور في المخيلة، وفق حمدان. ويضيف: "لقد غرسنا ذلك في أطفالنا الذين ورثوا محبة الأرض، وعشقوا الطبيعة في عين فيت من الحجر والشجر وارتسمت في مخيلتهم، فالأم السورية الجولانية لها يد مؤثرة جداً في التربية والانتماء، وأول ما تغرس في أطفالها الوطنية وأمل العودة بلهجة جولانية تُحفر في تجويف القلب. ويعد الجولان من أغنى البيئات باللهجات والألفاظ الشعبية تنوعاً وتميزاً، ويلعب وجهاء القرية دوراً هاماً في تقوية الروابط والتواصل مع بعضنا البعض"، بحسب تعبيره.
بعيداً من قسوة التهجير والحرمان، لا يزال أهل القرية يعتدّون بعاداتهم وتقاليدهم في الأفراح، يرددون الأهازيج التي تبعث في الروح الأمل بإحياء عرس قادم على أرض القرية. يرتدي الرجال الزيّ التقليدي الخاص بهم، أما النساء فلهنّ زيّ طويل ذو بصمة جولانية مزركش بألوان الطبيعة. وفي الأتراح، يكونون يداً واحدة، ما يصغّر في عين المحزون لوعة الفقد. ومن بين الأغاني التراثية للجولانيين: "يا سالم سلم على الجولان/بلغهم عودتنا قريبة/ بهمة الله وكل الشجعان/ بدنا نرجعلك يا حبيبي/ بدنا نرجعلك يا حبيبي/مر وسلملي على عين فيت/ذكرها الشعب مو ناسيها".
ويوضح حمدان أنّ "ما يواسيني في بعدي عن قريتي هو تلك النباتات والأشجار البرية التي نمت وخرجت من جدران منازلنا في عين فيت بسبب هجران البلدة، وإفراغها من السكان بعد تدميرها، صحيح نحن حرمنا منها لكن أيضاً لم يسكنها أحد بعدنا، وبقي أثرنا خالداً في جدرانها، ولم تشوه ثكنات الاحتلال ودنسه القرية"، بحسب تعبيره.
زهرة سرية (79 عاماً) تروي للميادين نت رحلة تهجيرها، قائلة: "في 5 حزيران/يونيو سنة 1967، كنّا نعمل في أراضينا كالعادة، وفي لحظة خاطفة في وضح النهار، بدأت أصوات النيران تعلو، وتكاثف إطلاق النار، مرفقاً مع هدير الطيران، عندها تفرّقت الناس وتاهت الآراء والعقول وبدأنا بمغادرة الأراضي". وتضيف: "لم نكن نعلم ما الذي يحدث، وليس لدينا أي وسيلة للمواجهة أو الدفاع عن أنفسنا، كان لدي 3 أبناء تتراوح أعمارهم بين 3 سنوات و7 أشهر، عندها صعدنا إلى سيارة وذهبنا إلى قرية بيت جن بالقرب من القنيطرة، ثم اتجهنا نحو دمشق، ومع الوقت استطعنا أن نتملك قطعة أرض ونبني بيوتنا حول بعضنا البعض، وأصبح لنا تجمعات سكنية جنوب دمشق حيث أعيش الآن".
نزحت قرية عين فيت بأكملها وبقيت 3 عائلات فقط، على أمل زوال المحنة قريباً، لكن بعد مدة بسيطة أجبرت باقي العائلات، حتى كبار السن منهم، على مغادرة منازلهم، فخرجوا سيراً متكئين إلى عكازة والبعض الآخر أمّن لهم الجنود الإسرائيليون سيارات لتوصلهم إلى الحدود.
وتتابع سرية: "منذ ذلك الوقت، أصبحنا نرى صور القرية المدمرة بين الحين والآخر عن طريق معارفنا من قرية الغجر المجاورة، عندما يحصلون على موافقة زيارة سياحية فيسمح لهم الاحتلال بدخول القرية".
مطامع الموقع الاستراتيجي
أصبحت القرية منطقة مناورات بعد تفريغها وتدميرها منعاً لعودة أبنائها، وباتت غير صالحة للسكن، فالاحتلال الإسرائيلي يستخدمها كساحة تدريب عسكرية لقواته في عين فيت وزعورة المجاورة.
منطقة الجولان تمتاز بموقعها الهام، فهي تحاذي جنوب لبنان وفلسطين والأردن، ويمتد الجولان من حدود نهر الأردن إلى جبل الشيخ الواقع على الحدود اللبنانية، إضافة إلى مطامع المياه، فكمّية المياه الموجودة في الجولان تساوي ثلث كمية المياه في فلسطين المحتلة.
إضافة إلى البترول، فالجولان السوري عائم على كميات هائلة من البترول والغاز، وما يميز بترول الجولان قربه من سطح الأرض، ومن المتعارف أنه كلما كان البترول أقرب من سطح الأرض كانت جودته أعلى وأسعاره أغلى.
جبل الصيحات ووادي الدموع
كلّ بيت من أهالي الجولان المهجرين يئنّ ويعاني من الحرمان، ويحنّ إلى أحباب وخلان في الجولان حُرم من لقائهم.
جبل الصيحات يعني لأهل الجولان المأساة والحنين وحرقة الاحتضان، مشهد لا يمكن أن تراه في أي نقطة على وجه الأرض، في مكان تتصارع فيه المشاعر ويبعث ذكريات الحزن والألم والشوق، وترتسم فيه الأحلام والأماني بلقاء الأهل والأحبة، الذين منعوا من دخول سوريا، فهناك تكثر أحلام الأمهات باحتضان أبنائهن.
هذا الجبل نقطة التقاء بين أهل الأرض المغتصبة والأراضي المحررة للجولان، يتم التواصل بينهم من خلف السياج الشائك الذي تعبره صرخات اشتياق الأهل والأحباب وأنّات الأمهات لأبنائهن في وادي الدموع، وسمي بهذا الاسم لكثرة البكاء في لقاءاتهم.
يذكر أن قرية عين فيت في الجولان السوري المحتل دمّرت على يد الاحتلال الإسرائيلي بعد عدوان 1967 مع أكثر من 230 قرية ومزرعة، ما أجبر سكانها الذين بلغ عددهم نصف مليون سوري على النزوح، وبقيت 5 قرى هي: عين قينية، مسعدية، بقعاثا، الغجر، مجدل شمس، وقرية سحيته ويبلغ عدد سكانها ما يقارب 21 ألف سوري.
ويتبع الجولان محافظة القنيطرة التي احتلت مع الجولان، ولكنها حررت في حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، وتقسم إلى 4 نواح، هي: الفيق في الجنوب، وعليقة الوسط، ومسعدة في الشمال، وخان أرنبة في الشرق.