عقد الراية.. المحاكم الشعبية تحسم خلافات أبناء العشائر في سوريا
إذا نشب خلاف بين عشيرتين في سوريا، يُحدّد يومٌ معين لدعوة الفريقين وأقربائهم إلى مكان معروف بضمانة الوسطاء، ويجري تجهيز الراية. ولا تُعقد راية الصلح قبل أن تجرى مفاوضات وجولات تحكيم بين الطرفين المتخاصمين.
يتميّز المجتمع السوري بتعدّد وتنوّع مكوناته التي تشكل العشائر جزءاً أساسياً منها، ولا يزال أبناء هذه العشائر حتى اليوم يحافظون على عاداتهم وأعرافهم التي تنسحب على نواحٍ حياتية كثيرة، أبرزها اعتماد المحاكم الشعبية لحل الخلافات.
في المجتمع العشائري حين يقع حادث قتل متعمد أو خطأً أو خلاف بين عشيرتين، يتحتّم على أهل القتيل أخذ الثأر لضحيتهم، وإلا عدوهم مقصرين أو جبناء، ما يؤدي إلى سلسلة من عمليات القتل والثأر، إذا لم يبادر المصلحون إلى القيام بواجبهم في التوسط لحصر الخلاف قبل اتساع رقعته.
ووفقاً للأعراف، فإن أي خصام دمويّ مهما طالت مدته سينتهي بعقد الراية الذي يفضله أغلب أبناء العشائر على انتظار صدور أحكام المحاكم النظامية، التي لا تنهي الخلاف ولا تحول من دون منازعات المجتمع العشائري، على عكس عقد الراية الذي يحسم الموضوع جذرياً، لكونه يعد تنازلاً عن الحق الخاص، واعترافاً علنياً وصريحاً أمام الوسطاء والكفلاء والحاضرين بالامتناع مستقبلاً عن كل عملية ثأرية.
الوساطة.. أول خطوة على طريق حل الخلافات
لا تُعقد راية الصلح قبل أن تُجرى مفاوضات وجولات تحكيم بين الطرفين المتخاصمين، يقوم بها وسطاء قد يكونون وجهاء أو شخصيات عشائرية أو شعبية أو دينية أو رسمية.
عضو مجلس الشعب السوري، رأفت البكار، يتحدث إلى الميادين نت عن صفات الشخص القادر على إصلاح ذات البين بين الناس قائلاً: "المهم أن يكون ذا خبرة بحل الخلافات، ووجيهاً يتمتع بقبول اجتماعي ومونة بين الناس، كما يجب أن يكون أميناً في المجالس، فلا يعرض المسائل الخلافية ولا ينقل كلام مجالس الأطراف المتنازعة إلا بالخير، والأهم أن يتمتع بسعة صدر كبيرة، وصبر على تحمل وجع الطرف الذي حلّت عليه المصيبة".
ينشر البكار دورياً على صفحته في فيسبوك صوراً لكثير من فعاليات عقد راية الصلح في محافظتي ريف دمشق والقنيطرة، التي يكون فيها حاضراً ومساهماً بارزاً، لأن "المجتمع السوري مبني على الخير والحق، وواجب الجميع أن يسعى للتوسط والإصلاح". ويضيف: "الخلافات قد تحدث حتى في البيت الواحد، فأغلب السوريين إن كانوا من سكان الريف أو المدينة، ينتمون إلى بيئات قبلية وعشائرية، ولديهم عادات وتقاليد مشتركة".
ويؤكد حتمية عودة الأمور إلى مجاريها نتيجة الصلح بعد الاحتكام إلى القضاء العشائري، الذي يلتزم كل الأطراف تنفيذه من خلال كفلاء. ويشرح: "هؤلاء يُسمِّيهم الأطراف المتنازعة، فالطرف الذي وقع عليه الحق يسمى كفيل وفا، والطرف صاحب الحق يسمى كفيل الدفا، ويتواجدون في أنواع الصلح المختلفة مثل صلح القتل العمد وصلح القتل الخطأ وصلح المشاجرات وغيرهم".
العطوة والجلوة.. فرصة لتهدئة النفوس
بعد وقوع حادث القتل سواء نتيجة ثأر أو خلاف أو عن غير قصد، يتدخل رجال الدين والوجهاء وأهل الخير للتوسط في الموضوع قبل أن يستفحل، إما بتكليف من أهل القاتل، وإما باندفاع ذاتي منعاً من توسع الصراع والتقاتل، وتمر الوساطة بمراحل عدة.
يقول الباحث في التراث اللامادي كريم حمزة للميادين نت: "نسمي أول مرحلة العطوة، وهي عبارة عن وعد يقدمه أهل المجني عليه لمن جاء يتوسط معهم لحل النزاع وتهدئة الخواطر، وتُطلب عادة فور وقوع الحادث، لكن هناك بعض العشائر العربية التي لا تقرها إلا بعد ثلاثة أيام، إذ يقال إن الدم لم يبرد بعد".
وينصّ الوعد على إعطاء ذوي القاتل مهلة معقولة، حتى يرحلوا عن ديارهم إلى أن تهدأ النفوس، وكي تبدأ الوساطة عملها وسعيها من أجل الحل، ويضيف حمزة: "قد تكون المهلة أياماً أو أشهراً وأحياناً سنة كاملة، وفي مدّة العطوة لا يجوز لذوي القتيل أن يثأروا أو يتعرضوا للقاتل وأقربائه بسوء، أو أن يعتدوا على أرزاقهم من عقارات ومواشٍ وغيرها، ومن يخالف ذلك مهدد بخسارة حقوقه".
أما المرحلة التالية فتدعى "الجُلوَة" وهي المكان الذي يحدد ليرتحل إليه أهل القاتل، وعادة ما يكون بعيداً من قرية القتيل والقرى التي فيها أقرباء له، و"إن صادف أهل القتيل أحداً من ذوي القاتل في غير المكان المعيّن للجُلوَة تزول عنه الحصانة ويمكن قتله"، بحسب حمزة.
يجزم الباحث في التراث اللامادي أن كل من تُطلب منه الجلوة معرض للثأر، ويضرب مثالاً على ذلك ما سمّاه "قبضة السكين"، ويقول: "نمسك السكين بخمس أصابع، فلو رفعنا الأولى التي تشير إلى الفاعل، ننتقل إلى الإصبع الثانية وهكذا حتى نصل إلى الخامسة، حينئذ إذا رفعت هذه الأصابع تسقط السكين من قبضة اليد، أي إن الذين تطالهم عمليات الثأر، هم لغاية الجد الخامس، وهم على التوالي الفاعل ثم والده ثم والده إلخ".
ويمكن في بعض الأحيان أن تكون عشيرة القاتل أقوى من عشيرة القتيل، فيحدث أنهم حين يُجلَون إلى قرى ومناطق أخرى، لا يكترثون كثيراً للصلح لأنهم أصحاب سطوة وبأس، فيقوم أهل القتيل بـ"المداورة" التي يشرحها ابن السويداء قائلاً: "يقوم أهل القتيل بإرسال مجموعات منهم تجوس القرية التي أجلي خصومهم إليها، ويطلقون النار على الأبواب والدور التي يشتبه في وجودهم فيها، كضغط عملي أو تذكير بأنهم ليسوا عاجزين عن الثأر".
أما إذا ما أمسك أهالي القرية المضيفة بأفراد المداورة، فيمكنهم ضربهم وأسرهم، وربما قتل أحدهم، لأنهم يعتبرون ذوي القتيل دخلاء عندهم، ومن حق المُجير أن يدافع عمن استجار به.
هل تعد الدية ثمناً لدماء الضحية؟
من المتفق عليه أن ليس للإنسان ثمن حتى يقدّر بمال، لكن عادات العرب انصرفت إلى أن الدية هي تعويض رمزي للوصول إلى صلح، وفي هذا السياق تنفي المهندسة علا عسكر للميادين نت، أن تكون الدية ثمناً للضحية لذلك "تكون دية الطفل كالشيخ والشاب، والرفيع كالوضيع، والعالم كالجاهل، والصحيح كالمريض...إلخ".
وتغيرت قيمة الدية بتغير الزمن والمجتمعات، كما تدرجت من الإبل إلى النعاج، حتى استقرت حالياً على النقود. وتقول ابنة إحدى عشائر ريف دمشق: "كانت الدية في الأربعينيات أربعة آلاف ليرة للقتل العمد، والخطلة (القتل عن طريق الخطأ) نصف الدية، أما قتيل العار بحسب قواعد العشائر فلا دية له ولا ثأر".
"حفار ودفان"، هي القاعدة التي تحكم الصلح بعد أي عداوة طويلة خلفت عدداً من القتلى بين أي عشيرتين، فعندئذٍ وبحسب عسكر "لا يجوز أن يحصى القتلى والجرحى والأضرار لدفع الديات والتعويض، بل يجري الصلح مع تجاوز كل ذلك، أي يحفر للأحقاد وتدفن ولا يفتّش الأفراد عن حقوق منفردة".
وفي العرف العشائري، لا يجوز أن تكون المنازل أو الأراضي دية للقتيل، مع أنها أموال غير منقولة، لأن ذلك يحيي الضغينة، وتشرح الشابة الثلاثينية: "إن سُمح بهذا، فسيتم ترحيل أفراد عشائر وعائلات عن موطنها، ما يحدث ضرراً بالغاً، قد يُلجىء القاتل وعشيرته بعدها إلى القيام باعتداءات جديدة ومتكررة، وكل اعتداء يوجب رد اعتداء، وبذلك تسود الفوضى ويضطرب الأمن".
لكن من الناحية الأخرى، لا يجوز أي تأخير في دفع الدية، فلا إمهال ولا تقسيط ولا إنقاص، بل يجري تسليم المبلغ بالتمام والكمال للوساطة، التي تدفعه عند عقد الراية بحسب القاعدة العشائرية التي تقول "الدية على كعب الرمح" (أي الرمح المستخدم لحمل الراية).
"نحن شوَّمنا بدم الضحية"، عبارة مألوفة على السمع في المجتمع العشائري، وهي نوع من الشهامة والمسامحة ينال ثناء واستحسان الحاضرين والوساطة، لكن "الشومة" لها مدلول عرفي آخر تشرحه عسكر: "الشومة تعني أيضاً طلب المقابلة بالمثل، في حال وقوع حادث معاكس، كما أن أخذ الدية وعدم التشويم بها، يعنيان أيضاً أنه عند وقوع حادث معاكس فإن الدية ستدفع أيضاً".
وتنوه عسكر إلى أنه لا يجوز لأهل الضحية أن يشوموا أي يسامحوا بالدية قبل حضورها، لأن "فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لم يتسلم الدية لا يمكنه أن يسامح بها" بحسب القواعد العشائرية.
الصلح سيد الأحكام
يُحدّد يومٌ معين لدعوة الفريقين وأقربائهم إلى مكان معروف بضمانة الوسطاء، ويتم تجهيز الراية التي يشرح الباحث في التراث اللا مادي كريم حمزة ماهيتها: "الراية عبارة عن شاشة بيضاء مربوطة إلى رمح، يرمز إلى العزة لكونه سلاح دفاع عن النفس، والشاشة البيضاء هي الوثيقة أي الورقة التي يكتب عليها شروط وإجراءات ما اتفق عليه، ولما كان هذا متعذراً، استبدلت الورقة براية بيضاء، لأن الوثيقة أو الورقة توقع بين شخصين فقط، أما الراية فيراها الأطراف كافة، وتوثيق هذه الشاشة وربطها على الرمح، يعني التوقيع أمام الحاضرين ليشهدوا على الواقعة".
يقف الفريقان متقابلين تفصل بينهما مسافة معينة يحددها المكان، ثم يتقدم الوسطاء من أهل المجني عليه باسم أمن الوطن وسلامة المجتمع وبأحكام الله عز وجل الذي قدر ما حدث، للتسليم بقضاء الله وقبول ما ترسمه العادات والتقاليد من آثار مادية ومعنوية، وقبول هذا الحشد الكبير من الناس الذي يشهد مراسم الصلح وإعلانه بعقد الراية.
ثم تعود الوساطة إلى الجهة المقابلة حاملة هذه الراية البيضاء، ثم يُستدعى أهل المجني عليه للاقتراب مسافة معينة كي يكون صوتهم مسموعاً أمام الحضور، لتعلن الوساطة أنهم قبلوا الصلح وعفوا عن الماضي، ثم يُسألون: "إن الطرفين قد سموا الكفلاء، فهل تقبلون بهم؟".
وفي حال القبول ينادي المصوت وهو رجل ذو صوت جهوري: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن عفا فأجره على الله، واشهدوا يا أهل الحمية، ضيوف ومحلية، الراية البيضا المبنية، هذه لفلان طيّب الله وجهه"، ويسمي أهل المقتول ثم يسمي واسطة الخير، ويردّدها غير مرة ثم يتقدم يرافقه أحد رجال الوساطة حيث يقوم والد المقتول أو ابنه أو أقرب الناس إليه، بعقد الشاشة البيضاء على الرمح، و ينتقل حامل الراية إلى أخيه أو إلى من يطلب منهم عقد الراية من أقرباء القتيل، أو من بعض الحاضرين.
ثم يدعى الجميع إلى "الملحة" وهي أكل الخبز والملح، الذي يرمز إلى إعلان السلام والأمان من جديد.