طرقات لبنان قاتلة.. خطر الموت يتربص بالمواطنين والكوارث المرورية إلى ارتفاع

تشهد طرقات لبنان تدهوراً حاداً وجلياً في البنية التحتية، حفر قاتلة، هندسة سيئة للطرقات، شارات سير معطلة، فواصل حديدية تتوسط الجسور، يضاف إليها عدم التشدد في تطبيق قوانين السير.

  • طرقات لبنان قاتلة.. خطر الموت يتربص بالمواطنين والكوارث المرورية إلى ارتفاع
    طرقات لبنان قاتلة.. خطر الموت يتربص بالمواطنين والكوارث المرورية إلى ارتفاع

تقطع حوراء يومياً مئات الكيلومترات من بلدتها في جنوب لبنان للوصول إلى عملها في العاصمة بيروت، لكن رحلتها اليومية باتت منهكة في ظل ما تواجهه من مشكلات على الطرقات. 

في الصباح تمر في الأنفاق المظلمة، حيث لا إنارة ولا حتى مصابيح مضيئة تمنع التصادم بين السيارات. مع مغيب الشمس، تكاد تكون الإنارة منعدمة في كل الطرقات، وليس في الأنفاق وحسب. تؤكد حوراء أنها في حال استنفار دائم في أثناء قيادتها السيارة كي لا تذهب ضحية حادث سير، فالذاهب إلى رزقه في هذا البلد كمن يقصد المجهول، "إذ صار الموت رخيصاً على الطرقات"، تقول متحسرة.

هذه المعاناة تبدو مشتركة بين المواطنين اللبنانيين، لكنها لا تقتصر على غياب الإنارة فحسب، بل تبدأ بها وصولاً إلى سلسلة من المشكلات التي جعلت من الطرقات "حقل ألغام" يخاف هؤلاء الوقوع في فخاخها.

نتحدث هنا عن تدهور حاد وجليّ في البنية التحتية، حفر قاتلة، هندسة سيئة للطرقات، شارات سير معطلة، فواصل حديدية تتوسط الجسور، يضاف إليها عدم التشدّد في تطبيق قوانين السير، وغيرها من المشكلات التي برزت مع اشتداد الأزمة الاقتصادية الأخيرة في لبنان.

طرقات لبنان.. لا صيانة، لا سلامة!

لم يعد مقبولاً وضع الطرقات في لبنان، تقول رانيا غاضبة،وتؤكد أنها باتت تحفظ أماكن الحفر الكبيرة التي تنتشر على الطرقات، والتي قد تقود أي سائق إلى حادث خطر أو مميت.

تماماً كما حصل مع سارة خطيبة محمد الذي لا ينسى أبداً ذلك اليوم المشؤوم الذي رحلت فيه إثر حادث سير مروع على طريق دولي، يقول إنه غير قادر إلى اليوم على تخطي الأمر، فهي لم تمت بسبب خطأ منها أو سرعة زائدة في القيادة أو ما شابه، بل قضت على طريق عام دولي تنعدم فيه الإنارة وتكثر فيه الحفر القاتلة. يلوم محمد الدولة والمسؤولين عن السلامة المرورية، ويضيف قائلاً: "لقد ضربت عرض الحائط بأقل معايير السلامة التي يجب أن تتوافر على طرقات لبنان حفاظاً على حياة المواطنين".

المسألة تكمن إذاً في انعدام وسائل الحماية التي يجب أن تتوافر على كل الطرقات، وفق رئيس جمعية اليازا للسلامة العامة زياد عقل، الذي يتوقع في حديثه إلى الميادين نت ارتفاعاً في حوادث السير في حال بقيت الأمور كما هي عليه. "فالحفر في الطرقات تكبر شيئاً فشيئاً لتصبح خنادق، والطرقات باتت سبباً لقتل الناس، لا شارات تحذيرية ولا وسائل حماية، فضلاً عن المشكلة المزمنة المتمثلة في غياب الإنارة على الطرقات، على ما يقول عقل.

ويلفت إلى مسألة مهمة تعدّ تدهوراً إضافياً في السلامة المروروية، وهي الريغارات(مصارف المياه) المفتوحة التي سقط فيها عشرات المشاة. إذ إن "عشرات آلاف الريغارات سرقت على مستوى كل لبنان، والعصابات لا تزال حرة طليقة، لم تحاكم إلا على نطاق محدود جداً"، يشدّد عقل على أن ذلك يحصل في ظل انعدام شبه تام لصيانة الطرقات.

هذا المشهد المتأزم على طرقات لبنان يرده نقيب المهندسين في لبنان عارف ياسين إلى الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019، والتي عادت بواقع السلامة المرورية في لبنان إلى الفوضى التي كانت سائدة في حقبة التسعينيات. ويشدد ياسين في حديثه إلى الميادين نت على أن الأزمة قضت على أركان أساسية في معايير السلامة المرورية، مشيراً إلى أن أبرز تلك المعايير يتمثل في أهلية الطرقات واستيفائها شروط السلامة.

من جهة ثانية، يلفت ياسين إلى غياب كبير لمعايير التصميم الهندسي الصحيح للطرق في لبنان، الذي من شأنه تحسين الكفاءة والسلامة مع تقليل التكاليف والأضرار البيئية إلى أدنى حد منها، من بينها "أن تكون الطرق ملائمةً لحجم المرور الذي يعتمد بشكل أساسي على أنواع المركبات وأوزانها واتجهاتها، وأن تجري مراعاة معايير السلامة المرورية والأمان لجميع مستخدمي الطرق، وذلك لتخفيف التصادم والحوادث المرورية، فضلاً عن مراعاة مسافات الرؤية على الطرق، وبخاصة عند التقاطعات".

اعتماد هذه المعايير وتطبيقها يتطلب، بحسب ياسين، جملة من الأمور، على رأسها تفعيل المجلس الوطني للسلامة المرورية الذي يرأسه رئيس مجلس الوزراء، وتفعيل اللجنة الوطنية المنبثقة منه التي يشارك فيها اتحاد المهندسين اللبنانيين بقوة، ومنحها صلاحيات واسعة لتنسيق جميع جهود الوزارات والمؤسسات ذات العلاقة بالسلامة المرورية ومتابعتها لتنفيذ المهام المطلوبة منها.

صيانة الطرقات بين الإهمال الرسمي وضعف الميزانيات

ولكن، في مقابل الحديث عن أهمية تفعيل دور المؤسسات والوزارات المعنية بالدرجة الأولى بالسلامة المرورية، يتساءل المواطنون عن حجم الجهود المبذولة اليوم من وزارة الأشغال المنوط بها بناء الطرق وصيانتها وفق المعايير الدولية، فضلاً عن بناء الجسور والتشدد في مراقبة تطبيق القوانين الخاصة بالطرق الدولية، فهل تضطلع الوزارة بتحديد النقاط السود التي تكثر فيها الحوادث ومعالجتها؟

في الواقع، مع كل حادث مروري يبرز الحديث عن إهمال الدولة، حصل ذلك على سبيل المثال بعيد الحادث الذي أودى بحياة الفنان اللبناني الشاب جورج الراسي ومديرة أعماله زينة المرعبي على طريق المصنع بين سوريا ولبنان، بعد أن اصطدمت سيارة الراسي بحاجز إسمنتي في منتصف الطريق الذي يفتقر إلى إنارة كافية، ليتبين فيما بعد أن آخرين قد توفوا في المكان عينه بعد اصطدام سياراتهم بالفاصل نفسه، ومن دون أن تتحرك أي من وزارات الأشغال المتعاقبة.

حينذاك خرج وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني، علي حمية، بتصريح رسمي قال فيه إن طريق المصنع هو طريق الموت، مشدداً على أن كل طرقات لبنان تعاني، ومشيراً أيضاً إلى أن موازنة وزارة الأشغال العامة تبلغ 39 مليار ليرة، أي نحو مليون دولار فقط.

إذاً، بحسب وزارة الأشغال فإنّ شُحّ الأموال فيها يحول دون معالجة وضع الطرقات المزري في لبنان، هذه المعضلة تنطبق أيضاً على مؤسسات أخرى، كالبلديات التي تقع عليها مسؤولية صيانة الطرقات، وشقها، وتنظيمها، وتخطيطها وتوسيعها وتنظيفها.

ومعلوم أن تكلفة أعمال الصيانة ومواد إصلاح الطرق والمواد البترولية كالزفت، إضافة إلى أعمال حماية الطرقات وتزييحها، فضلاً عن وضع أجهزة الإنارة والسلامة العامة، كل ذلك بات يسعّر بالدولار الطازج، على ما يؤكّد رئيس بلدية الغبيري في بيروت معن الخليل.

الخليل وفي حديثه إلى الميادين نت، قال متأسفاً إن ضعف الإيرادات في البلدية لا يسمح لها بأن تؤدي هذا الواجب على الوجه الأكمل، كما كانت تفعل سابقاً في ظل استحقاقاقات غاية في الأهمية، كرواتب الموظفين والملفات الصحية والاجتماعية الضاغطة على الناس، وقال: "عملنا على الطرقات بات يقتصر على الأمور الطارئة جداً، كإصلاح بعض الحفر بأقل تكاليف ممكنة".

ولفت الخليل إلى أن البلدية كانت تعتمد في السابق لإنارة الشوارع الداخلية على الاشتراكات، إلى أن وصلت تكلفة الاشتراك الشهري إلى 300 مليون ليرة تقريباً، مشيراً إلى أن ذلك شكّل عبئاً كبيراً على البلدية، فعادت كل الشوارع إلى نظام الإنارة من الدولة الغائبة على نحو شبه كلي.

كبلدية الغبيري يؤدي ضعف الإيرادات في بلديات جبل عامل إلى عجزها عن تغطية كل نفقات صيانة الطرقات. 

رئيس اتحاد بلديات جبل عامل علي ياسين أكد في حديثه إلى الميادين نت أن الاتحاد عمل منذ أربع سنوات مع شركة متخصصة لوضع خطة لسلامة المرور، وتقليل حوادث السير، لكنها لم تستكمل بعد دخول البلاد في سلسلة الأزمات الاقتصادية والمالية.

ياسين شدد على أن مشاريع عديدة كانت قيد الإنشاء لتحسين وضع الطرقات توقفت، والشركات المتعهدة لم تعد تقبل الاستدانة منها، مشيراً في الوقت نفسه إلى تبعات خطرة لهذا الواقع، إذ إن "الحوادث في المنطقة زادت كثيراً بعد الأزمة الأخيرة"، يقول ياسين.

في البقاع، تبدو أوضاع الطرقات في حالٍ يرثى لها. ذلك ما أكده رئيس بلدية دورس إيلي الغصين في حديثه إلى الميادين نت إذ قال: "على الطريق العام تنعدم الشارات والإنارة، وتكثر فيها القنوات المفتوحة، والحفر". 

يتحدث الغصين بهذا الصدد عن أن البلدية اليوم غير قادرة مالياً على صيانة الطرقات ولا على تزفيتها.

ولكن ما يفاقم فعلياً الأزمة بحسب الغصين، هو سرقة التجهيزات الضرورية للسلامة المرورية. فقد "سرقت اللافتات والمرايا التي وضعناها على مفارق الطرق لتجنيب المواطنين الحوادث التي تحصل هناك، ثمة أعمدة كهرباء سرقت هي الأخرى. والأفظع من ذلك كله سرقة بطاريات الطاقة الشمسية من الأعمدة على طول الطرقات، ما جعل المنطقة ليلاً في حال ظلام دامس"، يقول الغصين مشيراً إلى أن هذه الآفة تضاعف أيضاً نسبة الحوادث الآخذة في الارتفاع.

مئات الضحايا تحصدها طرقات لبنان 

يتفق المعنيون بالسلامة المرورية والمسؤولون المباشرون عن تحقيقها في لبنان على أن وضع الطرقات المزري وغياب الإمكانات، فضلاً عن العجز المستديم عن معالجة الخلل على طرقات لبنان يؤدي دوراً في زيادة الحوادث الخطرة. 

مصادر في قوى الأمن الداخلي وفي حديثها إلى الميادين نت قالت إن هذه الحوادث تشكل 10 في المئة من أسباب وقوع الحوادث التي تعود إلى عوامل بشرية بحتة، مثل السرعة الزائدة في القيادة وعدم التقيد بقوانين السير وغيرها من الأسباب الشائعة لحوادث السير، مبينة أن هذه الأخيرة سجلت انخفاضاً بنسبة جيدة من عام 2018 إلى عام 2021.

ففيما وصل عدد الحوادث عام 2018 إلى 5 آلاف و65 حادثاً وعدد القتلى إلى 514 في مقابل 6 آلاف و673 جريحاً، وبلغ عدد الحوادث عام 2021 ما مجموعه ألفان و648 حادثاً، في حين لم يتجاوز عدد القتلى 375 ضحية وعدد الجرحى 3 آلاف و 279.

أما في عام 2022، فقد تسببت الحوادث في شهر تموز/يوليو بمقتل أكثر من 40 شخصاً، وإصابة نحو 210 بجروح مختلفة، فيما سجل شهر آب/أغسطس سقوط 43 ضحية ليتجاوز عدد ضحايا عام 2022، 213 قتيلاً وأكثر من 300 جريح لغاية شهر آب/أغسطس، وفق الأرقام التي نشرتها غرفة التحكم المروري التابعة لقوى الأمن الداخلي.

وتعزو مصادر الأمن الداخلي انخفاض نسبة الحوادث إلى أسباب عدة منها فترة كورونا التي أجبرت المواطنين على المكوث في منازلهم فترات طويلة، فضلاً عن ارتفاع أسعار المحروقات وبروز ثقافة النقل المشترك، وهجرة الشباب، إذ إن النسبة الكبرى من ضحايا حوادث السير في لبنان هي من فئة الشباب، فضلاً عن ارتفاع تكلفة الكحول،وانخفاض عدد المناسبات التي توزّعها فيها بالمجان.

ولكن، في الوقت عينه توضح هذه المصادر أن نسبة الحوادث التي انخفضت كان من الممكن أن تنخفض أكثر فيما لو جرت صيانة الطرقات، ومعالجة مشكلاتها، وفق معايير السلامة المرورية، فضلاً عن قيام المواطنين بتبديل قطع السيارات من دون أي تأخر كالفرامل والإطارات ومسّاحات الزجاج.

صحيح أن بعض الأسباب الظرفية أدت إلى تراجع يسير في عدد ضحايا حوادث السير في لبنان، ولكن يبقى هذا العدد كبيراً مقارنة بمساحة هذا البلد الصغير الذي خنقته المشكلات من كل جانب. فهل تستفيق الدولة اللبنانية لدفع خطر الموت عن مواطنيها على طرقات بلدهم؟ ومتى تسفيد الدولة من تجارب دول قطعت شوطاً في وضع السلامة المرورية في سلّم الأولويات؟