سوريا: أهالي دير ماما في ريف مصياف يكافحون للحفاظ على آخر خيط حرير
تعد بلدة دير ماما في ريف مصياف بمحافظة حماة، واحدةً من أشهر البلدات السورية التي كانت مقصداً لعشاق الحرير الطبيعي، فيما تواجه اليوم تبعات سنوات الحرب.
كانت منتوجات الحرير الطبيعي عبر العصور القديمة حكراً على بعض الإمبراطوريات والأمم، وكان يحظر إفشاء سرّ الإنتاج حتى إنه يُعدّ من الخيانات العظمى، ويعاقب كل من يُخلّ بذلك.
وعلى مدى أكثر من 3000 عام، كان صرير دولاب شرانق الحرير يسمع في كثير من القرى السورية، وظلّت العرائس السوريات يحتفظن بالثوب الحريري التقليدي، ويحملنه معهن إلى بيت الزوجية، ويتفاخرن بارتدائه في المناسبات.
أما اليوم فتواجه البلاد تبعات سنوات حرب، لم ترحم الموروث الثقافي والتراثي، ولا سيما حرفة صناعة الحرير.
وتعد بلدة دير ماما في ريف مصياف بمحافظة حماة، واحدةً من أشهر البلدات السورية التي كانت مقصداً لعشاق الحرير الطبيعي، وكان سكّانها قبل الحرب يعملون بمعظمهم في صناعته، لكنها في الوقت الحالي، وفي ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، تصارع وحيدةً للحفاظ على هذه الحرفة ومنعها من الاندثار.
جفلة.. من عنّا!
"شفتك يا جفلة ع البيدر طالعة/ خدودك يا عيني الشمس الساطعة/ وسألتك يا بيي ليش مفرّعة/ قالت عرقانة ولشمّ الهوا".
بصوت شجيّ، تدندن شهيرة هدية، هذه الأغنية الشعبية، وتبادر إلى سؤالنا: "هل تعرفون من كتب هذه الأغنية؟"، لا تمهلنا كي نفكر، بل تعاجلنا بالإجابة، وشعور الزهو يرتسم على وجهها: "إنه رجل من قريتنا، كان يحب ابنته كثيراً، في الأساس دير ماما مشهورة بأبنائها الذين يُلقَّبون بشُعّار دير ماما، ومنهم أخذت القرية اسمها بالدير الناطق".
تعدّل قليلاً شالها الحريري الذي تلف به رأسها، وتكمل حياكة منديل حريري آخر تصنعه لحفيدتها، وتقول لـلميادين نت: "كنا نعيش بفضل هذه الحرفة، في السابق لم يكن لدينا كهرباء، لكن كانت عملية الخرج تحظى بطقوس خاصة، فكنا نجتمع نساءً وصبايا، كل أربع أو خمس منا حول ضوء السّراج، نغني ونضحك ونتبادل الأحاديث في أثناء العمل بالمناديل، حتى تحل الساعة الثانية صباحاً".
أما عن مراحل تربية دودة القز وصناعة خيط الحرير يدوياً، فتشرح السيدة الثمانينية: "كانت البذور تأتينا من الخارج، ثم كنا نجمع كميات كبيرة جداً من أوراق التوت التي نغذي بها اليرقات 6 أسابيع بعد أن تفقس، وعندما تتوقف عن الأكل تبدأ بنسج الشرانق، ثم تأتي مرحلة استخلاص خيوط الحرير بضع كمية من القز (قبل تحوّلها إلى فراش) في ماء غالٍ، وتحرّك فترة قصيرة حتى يبدأ الحرير بالانحلال والتمدّد، ثم توضع الخيوط على دولاب خاص يعطي شكل خيط الحرير النهائي، ثم توضع على النول لغزلها ونسجها للحصول على منتوجات وقطع الحرير الخالص".
ترتدي أم محمد مناديل الحرير في الصيف كي تدفئها، وفي الشتاء كي تمنحها شعوراً بالبرودة، وتتابع: "يمتاز الحرير الطبيعي بنعومته ومتانته وعدم قابليته للاشتعال، ويملك أيضاً خصائص طبية متعددة، فهو يستخدم كعلاج طبيعي لحساسية الجلد والحكة".
متحفٌ من دون زوّار
بلافتةٍ كتب عليها: "أهلاً وسهلاً بكم في معرض الحرير"، يرحّب متحف الحرير الطبيعي في دير ماما بزواره.
يجول بنا محمد سعود، شيخ كار صناعة الحرير في سوريا في متحفه الذي يعد الوحيد في البلاد، ويقول لـلميادين نت: "هدفي من إنشاء هذا المتحف هو التعريف بحرفتنا لحمايتها من الاندثار، وتسليط الضوء عليها وإيصالها إلى أكبر عدد من الناس، الذين لا يعرفون بوجودها في هذه القرية".
الرجل الذي اقتطع جزءاً من بيته الذي يقطن فيه مع أسرته كي ينشئ هذا المتحف، يشرح للميادين نت عن محتوياته: "لدي جميع الأدوات لصناعة الحرير الطبيعي التي نستخدمها منذ عشرات السنين حتى اليوم، مثل أدوات تربية دود القز، ونول الحياكة لخيط الحرير، ولدي قطع تراثية فخارية قديمة، وبعض الأدوات الزراعية التي كانت تستخدم في الماضي، وبعض أثاث البيوت القديمة وأدوات الطهو التراثية".
لا يخفي سعود قلقه من خطر اندثار هذه الحرفة في القرية، إذ انخفض عدد الأسر التي تعمل بها، إلى أقلّ من ستة، ويعزي ذلك إلى أسباب عدة أهمها: "غياب البذور ذات الجودة العالية التي كانت تأتي من الخارج، والتي توقفنا عن العمل خمس سنوات بسبب انقطاع استيرادها نتيجة الحرب، ثم صارت تصنع محلياً لكن بجودة منخفضة، وتعطي إنتاجاً أقل، وتراجع عدد أشجار التوت التي تتغذّى عليها الديدان بسبب الحرائق التي أتت على المنطقة، إضافةً إلى قلة تسويق المنتوجات، وغياب المجموعات السياحية الخارجية التي كانت تطلبها بكثرة".
تعلم أولاد شيخ الكار الثلاثة المهنة، وباتوا يجيدونها، لكنهم لا يعملون بها لأنها "لا تطعم خبزاً" بحسب تعبيرهم، ويقول سعود: "في التسعينيات وصل إنتاج دير ماما فقط إلى 11 طناً من الشرانق التي تستخدم في صناعة الحرير.. أما اليوم فلا تتجاوز كيلوغرامات معدودة، يجب دعم هذه الحرفة مرة أخرى قبل قوت الأوان".
التراث حبّة.. ومحبّة
قرب التّجمعات حول دولاب حل خيط الحرير، يقف محمد عباس حاملاً الكاميرا بيد ويشير باليد الأخرى إلى مجموعة من الأطفال كي تكف عن الحديث، واحد.. اثنان.. ثلاثة، الكاميرا تلتقط وتعود أصوات الأطفال لتعلو مرة أخرى، ينظر بإعجاب إلى الصورة التي التقطها، ويقول لـلميادين نت: "أنا مُدرّس رياضيات، وعملي هو التعليم، لكن، في أول الحرب على سوريا وتهديد هويتها وتراثها، وجدت أن من واجبي كشخص يعيش في قرية غنية بالموروث الشعبي المتميز، أن أوثّق وأحفظ الأمانة التي حمّلنا إياها أجدادنا، عبر صور ومقاطع فيديو أنشرها عبر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي أنشأتها لهذه الغاية".
"عمّو.. صورني لو سمحت"، بهذه الجملة يقاطع طفلٌ صغير الحديث، ويطلب إلى الشابّ الثلاثيني تصويره مع جدته، وهما يقومان بحل الخيط، لأنه سيحصل على جائزة ثمينة من والدته، إذا تعلّم التقنية جيداً، يسجل عباس مقطعاً صغيراً ويتابع حديثه: "يصعب الحفاظ على التراث المادي لأنه شفهي ومتناقل عبر الأجيال، لذلك صرت أتوجّه إلى المعمَّرين في القرية، وأصور معهم فيديوهات أسألهم فيها عن موروثنا الذي كان بالنسبة إليهم روتين حياة يومياً، عن عاداتهم وتقاليدهم وأهازيجهم، وأركّز بصورة خاصة على ما نسمّيه موسم حل الحرير، فقريتنا هي آخر قرية في سوريا لا تزال تحافظ على إحياء هذا التقليد".
يرد ابن دير ماما تحية بعض الأهالي الذين يبتسمون له، فهو وجه معروف في القرية، ويلقى عمله التوثيقي دعمهم واهتمامهم، ويشرح: "الخاص والجميل في قريتنا، هو التعاون والتكاتف لإحياء هذا الموروث، فعلى هامش مهرجان رأس السنة السورية الذي يقام سنوياً، اقترحت السيدة فدوى شحود إعادة إحياء وهيكلة فرقة دير ماما للتراث، وهذا ما حصل، فهي اليوم تضم أعضاء من عمر 4 سنوات حتى 75".
ويختم عباس بالجملة التي لطالما يكرّرها في حديثه:" التراث حبّة ومحبة"، شارحاً ذلمك بأنّ "التراث حبّة، لأننا نزرعها في الأرض فتعطي السنابل، ومحبة نرثها من أهلنا لنورّثها لأولادنا".