سوريا تودّع "أوفى الرفاق": دمعٌ لا يُكفكف يا سيّد
تضج دمشق بعبارة في طرقاتها: "المقاومة فكرةٌ وفكر، والشهيد نصر الله هو ذاكرتها وتاريخها، وهو لن يكون يوماً أسطورة، بل سيبقى نهجاً ينتج حقيقة تفرض واقعاً قلبه المقاومة، وجوهره العزة وبوصلته الكرامة، وعنوانه التحرير ومنارته على مر الأجيال الشهيد حسن نصر الله"
لم يكن يوم السبت 28 أيلول يوماً عادياً بالنسبة للسوريين، صمتٌ مطبق في الشوارع، بعض المحلات أغلقت، والتزم الكثير من الناس بيوتهم، غير مصدقين الخبر الجلل. "سماحة السيد، سيد المقاومة، العبد الصالح، انتقل إلى جوار ربه ورضوانه شهيداً عظيماً قائداً بطلاً مقداماً شجاعاً حكيماً مستبصراً مؤمناً، ملتحقاً بقافلة شهداء كربلاء النورانية الخالدة في المسيرة الإلهية الإيمانية على خطى الأنبياء والأئمة الشهداء".
بهذا البيان الذي تناقله السوريون بين بعضهم بشكل هستيري، نعى حزب الله أمينه العام وقائده الاستثنائي، الذي استشهد في لحظة فاصلة من تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. علاقة سوريا مع حزب الله لم تكن مجرد علاقات سياسية عادية بين دولة وحركة مقاومة، بل امتدت لتكون علاقة أسمى بكثير بين مواطنين أحبوا "السيد حسن"، الذي تعرفوا إليه فعلياً في "عناقيد الغضب"، وتسمروا أمام الشاشات لمشاهدته في 2006، وهو يقول عبارته الشهيرة: "انظروا إليها تحترق". وقتها صارت القماشة الصفراء الأكثر مبيعاً في البلاد، ودخلت صور السيد نصر الله وانتصاره التاريخي في المناهج الدراسية للأطفال السوريين، وصار المرء يجد صور السيد بسهولة في المحال والأسواق والمكتبات، ويرى شعارات الحزب مطبوعة على السيارات المدنية.
عام 2011 بدأت الحرب الإرهابية على سوريا، التي تخلى عنها أغلب الأشقاء، لا بل تآمروا عليها وشاركوا في سفك دماء أبنائها،وحده حزب الله، بشيبه وشبابه بعناصره وتعبئته، بمجتمعه وأمينه العام وقفوا إلى جانب دمشق حينما غاب النصير. كان السوريون ينتظرون إطلالات "الوعد الصادق" بلهفة، لأنه كان يمثل لهم الأمل والدعم والسند والثقة، ولا يزال صوت السيد في ذاكرتهم مردداً: "طريق القدس يمر بحلب والقلمون والزبداني والحسكة"، و"أصدقاء سوريا، الإقليميين والدوليين، لن يسمحوا بسقوطها بيد أميركا أو إسرائيل أو الجماعات التكفيرية".
الشهيد نصر الله.. لن يكون أسطورة بل سيبقى نهجاً
للشهيد نصر الله مكانة كبيرة في قلوب السوريين خصوصاً عوائل الشهداء، عبّر عنها الصحافي محمد حلو، وهو شقيق شهيد من الجيش العربي السوري، قائلاً: "عندما استشهد أخي، وقفت الدنيا بي، وقلت إنه لن يكون بعد ذلك حزن أشدُّ، فقد كسر ظهري، ولكنني يوم استشهاد سماحته شعرت بشعور ذلك اليوم نفسه، انهمرت دموعي وكأن التاريخ أعاد نفسه، لقد أبكاني السيد، لم أكن أعلم أنه بمكانة أحد من أهلي.. لهذه الدرجة".
يحفظ السوريون الجميل، ويكنُّون كل الوفاء لذلك الرجل النبيل الذي شارك في محاربة أدوات الصهيونية في سوريا، في هذا السياق يقول المهندس الشاب المغترب جميل ديب: "أنا أنحدر من ريف اللاذقية الشمالي، هناك في بيت جدي القديم البعيد، توجد صورة للسيد، صامدة مثله، لا أعلم متى عُلَّقت لكن بالتأكيد منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، لم أذكر في يوم من الأيام أنني زرتهم ولم تكن هذه الصورة موجودة، كل أثاث البيت تغير، حتى ريفنا ومعالم المنطقة التي تكالب عليها العالم وشهدت معارك وحروب وخسارات وانتصارات وشهداء تغيرت، إلا هذه الصورة، بقيت ثابتة. صحيح أرهقتها الشمس والرياح، لكننا كنا نستمد الصمود والقوة من صاحب الوجه الموجود فيها، الآن رحل هذا الجبل وكل الكلمات لا تكفي لرثائه، لكن نهجه باقٍ وسنبقى أوفياء له".
بينما كان حزب الله في سوريا بتوجيهات أمينه العام يحارب التكفيريين، كانت الأكاذيب الهائلة والدعايات التضليلية عنهم تنتشر بتمويل لا محدود، "لكننا مسيحيو هذه البلاد نعرف الحقيقة تماماً"، هكذا تقول كارلا يوسف، وتضيف: "لو كل العالم نسى فأهل معلولا وراهباتها المختطفات وصيدنايا والقلمون لن ينسوا، هذا ليس كلاماً إنشائياً للصحافة، ما عليكم سوى أن تمروا من ساحة شهداء قناة المنار، وتسألوا أي شخص هنا، اسألوا مريم وهبي السيدة التي قبل أن تتوفى كانت تقول لكل قادم من لبنان: "ليش ما جبتوا السيد معكم، لولاه ما رجعت شفت بيتي لبعد مئة سنة"، لو استمعتم إليها وهي تغني له، لو استمعتم للقصيدة التي كتبها البعض بالآرامية لأجله".
وهكذا تضج دمشق بعبارة في طرقاتها: "المقاومة فكرةٌ وفكر، والشهيد نصر الله هو ذاكرتها وتاريخها، وهو لن يكون يوماً أسطورة، بل سيبقى نهجاً ينتج حقيقة تفرض واقعاً قلبه المقاومة، وجوهره العزة وبوصلته الكرامة، وعنوانه التحرير ومنارته على مر الأجيال الشهيد حسن نصر الله".