سريلانكا: هل تضع الاحتجاجات حداً للصراع العرقي بين التاميل والسنهال؟
دموية تشهد عليها محطات كثيرة من التاريخ في سريلانكا. أقليات أخفقت في التمرد، وأكثرية تسلحت بأنصارها فوصلت إلى سدة الحكم. والسمة الأبرز لكل الحقب كانت تمييزاً عرقياً جر ويلاته على شعب بأكمله.
أعادت الاحتجاجات التي شهدتها سريلانكا في الآونة الأخيرة، وما رافقها من فوضى واهتزاز في كرسي السلطة السريلانكية إلى الأذهان مراحل من تاريخ هذه البلاد التي لم تنعم بالهدوء منذ حقبة الاستعمار البريطاني.
وبينما تتأجج الفوضى الحالية في سريلانكا جراء سوء الأحوال الاقتصادية التي حركت آلاف المحتجين للمطالبة بظروف معيشية أفضل، فإنّ المحتجين أيضاً وجدوا في حركتهم الاحتجاجية فرصة للمطالبة بالمساواة العرقية بين الأقلية والأكثرية في البلاد، خاصةً أنّ التاريخ السريلانكي حافل بالفوضى التي كانت تتغذى على التمييز العرقي، الذي ترك وصمة لا يمكن نسيانها تجلت في حرب أهلية.
من هما طرفا الصراع التاريخي في سريلانكا؟
يرتبط تاريخ الصراع العرقي في سريلانكا بقطبين أساسيين كانا يمثلان المجتمع آنذاك، وهما الأقلية "التاميل" التي تشكل 17%، والأكثرية "السنهال" التي تشكل 70%، ووفدت كثيرٌ من القبائل السّنهاليّة والتّاميليّة من الهند إلى سريلانكا عبر التّاريخ، وقد أتى السّنهاليون من مناطق شمال الهند ليسكنوا جنوب سريلانكا، بينما رحلت قبائل التّاميل من جنوب الهند وتحديداً من منطقة تسمّى تاميل نادو لتسكن في شّمال شّرق سريلانكا.
والتاميل، هم قبائل غير منزوعة السلاح ويتكلمون اللغة التاميلية ويحلمون بالانفصال عن سريلانكا، حيث يوجد بينهم وبين قبائل السّنهاليّة صراع مستمر. إذ يرى التّاميل أنّ دولتهم كانت موجودة عبر التّاريخ ولكن اندثرت بفعل الحروب، لذلك ومنذ قدومهم إلى سريلانكا في القرن 19 وهم يحلمون بإقامة دولة مستقلة لهم.
أما السنهال، هم مجموعة عرقية هندو أوروبية موجودة في سريلانكا وهم السكان الأصليون لها، وأكبر عرقية في سريلانكا حيث يكونون نسبة 75% من شعب سريلانكا أي ما يضاهي حوالى 15 مليون، يتكلمون باللغة السنهالية، ويعتنق أغلبهم البوذية مع وجود أقليات تعتنق المسيحية.
الاستعمار البريطاني يغذي التوتر الإثني
انطلقت شرارة الصراع بين التاميل والسنهال مع حقبة الاستعمار البريطاني، حيث حكمت بريطانيا (سيلان) وهو الاسم الأصلي لسريلانكا 133 سنة قبل أن تغادر الجزيرة في 1948، معتمدةً على مبدأ "فرّق تسد"، حيث كانت سياسة البريطانيين تجاه العرقين الرئيسيين في سريلانكا مختلفة، إذ قاموا بتفضيل التامليين على السنهاليين، ويعزي كثير من المؤرخين إرهاصات الحرب الأهلية التي دمرت البلد في نهاية القرن العشرين، إلى هذه الفترة.
وقام البريطانيون آنذاك بتمييز التاميل إيجابياً، بحكم أنهم نجحوا في استيعاب نظرائهم في الهند (التاميل نادو) في السابق، وأدى هذا التمييز إلى حصول التاميل على تمثيلية مهمة داخل الإدارة والتعليم والمهن المرموقة، تفوق بكثير ثقلهم الديمغرافي (الذي كان 15%)، حيث حصلوا على 30% من مناصب التدريس، 40% من الوظائف الحكومية، وأكثر من 50% في مهن المحاماة والطب.
وخلق هذا التمييز شعوراً قومياً تحررياً لدى السنهاليين وكراهية تجاه الإنكليز والتاميل على حد سواء، فولدت حركة وطنية مقاومة سنهالية الهوية، وبعد حصول سريلانكا على استقلالها عام 1948، استولت الأغلبية السنهالية البوذية على السلطة، فيما همشت أقلية التاميل الهندوسية وأيضاً المسيحية لاتهامهما بالقرب من المستعمر.
وتتحدث ملاحم عدة عن حروب بين التاميل والسنهاليين خلال القرون الماضية، إلا أن التوتر الإثني بدأ فعلاً بالظهور بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، عندما استعادت الأكثرية السنهالية السلطة، ويعتبر الكثيرون أن قرار تبني السنهالية لغة رسمية عام 1956 والتخلي عن لغة التاميل والإنكليزية شكّل منعطفاً حاسماً في العلاقات المتوترة بين المجموعتين.
وفي العام 1972، تحوّلت سيلان إلى جمهورية سريلانكا الديمقراطية الاشتراكية عبر دستور رسّخ البوذية ديناً للدولة، مما زاد شعور التاميليين بالإقصاء.
أما في العام 1977، اندلعت اشتباكات بين شباب من التاميل وقوات الشرطة تلتها أعمال شغب مناهضة للتاميل في جميع أنحاء البلاد، وتسببت في مقتل المئات من الأقلية، ومع مرور السنين، تصاعد الاحتقان، وبدأ مقاتلو ما يسمى "نمور التاميل" بتنفيذ عمليات ضد الجيش السريلانكي.
التاميل يشكلون جبهةً لـ"نمورهم".. كيف ساهموا في الصراع؟
يقاتل "نمور تحرير التاميل" أو الحركة السريلانكية الانفصالية، منذ العام 1983 ضد حكومة العاصمة كولومبو بهدف الاستقلال الذاتي في إيلام التاميلية وهي المناطق التي تقطنها عرقية التاميل شمالي وشرقي الجزيرة التي تحكمها غالبية من عرقية السنهاليين.
وتنقسم الجبهة إلى 3 أقسام رئيسية، وهي الجناح العسكري والجناح السياسي وجناح تنظيم جمع الأموال، وتخضع الأجنحة الثلاثة إلى سلطة هيئة مركزية بزعامة رئيس الحركة فيلوبيلاي برابهاكاران.
وفي بداية الثمانينات، تحديداً في 23 تموز/يوليو 1983، اندلعت الحرب الأهلية السريلانكية بين الحكومة من جهة وجبهة تحرير نمور التاميل من جهة ثانية، في واحدة من أطول الحروب الأهلية في آسيا، التي راح ضحيتها ما يقارب 100 ألف شخص.
وتدخلت الهند في الحرب وأرسلت قوات إلى الجزيرة من أجل القضاء على التمرد وذلك في عهد رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي مما تسبب في اغتياله لاحقاً على يد الجبهة، لتعتبر الجبهة أنّ هذا الاغتيال من أبرز عملياتها في ذلك الوقت.
واستمر الصراع بين الحكومة السريلانكية ونمور تحرير تاميل إيلام قرابة ثلاثة عقود، أعلنت خلالها جبهة "نمور التاميل"، إقليم إيلام دولة مستقلة لأقلية التاميل في الجزيرة، وذلك في أعقاب هجوم عسكري عنيف استمر لمدة عام.
وقالت الحكومة السريلانكية في أيار/مايو 2009 أنها هزمت الجماعة الانفصالية، وقتلت زعيمها برابهاكاران، في هجوم قاسٍ قاده الرئيس السريلانكي المستقيل غوتابايا راجاباكسا، وتم التوصل في شباط/فبراير 2002 إلى اتفاق سلام بين الجانبين في تايلاند برعاية نرويجية، وبدء مفاوضات للسلام والتوافق على إقامة نظام اتحادي في سريلانكا، عقب تنازل النمور عن مطلب الانفصال.
ورغم أن التاريخ سجل انتهاء الحرب الأهلية في سريلانكا، لكن السلام والاستقرار لم يتحققا بعد ذلك، والسبب في رأي كثيرين هو إخفاق الحكومة في حل كثير من القضايا العالقة، مثل مسألة تقرير المصير والوصول إلى حل سياسي لمشاكل الأقليات والمشردين والمختفين قسرياً.
أخطر مخلفات الحرب الأهلية السريلانكية
لعل أخطر مخلفات الحرب الأهلية تجلى في موجة التشدد البوذي التي أعقبتها، وتبلورت على شكل حلف سياسي بين المتشددين البوذيين ومعسكر الرئيس راجاباكسا، الذي فاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة 52% عام 2005 مدعوماً من البوذيين، مما مكنه من التغلب على منافسه الرئيسي ساجيت بريماسادا، المدعوم من الأقليات كالمسلمين والتاميل.
وحديثاً، لم ينحصر التمييز بين العرقين الأساسيين التاميل والسنهال، بل تخطى ذلك ليصبح المسلمون في سريلانكا فئة من الأقليات إلى جانب التاميل، في مواجهة الأكثرية السنهالية.
وتزايدت حملات العنف والكراهية بين السنهال والمسلمين في المرحلة التي أعقبت تفجيرات الكنائس الشهيرة في نيسان/أبريل 2019، والتي أسفرت عن مقتل ما يصل إلى 250 شخصاً، وأعلن تنظيم "داعش" الإرهابي مسؤوليته عنها.
وكانت هذه الحادثة نقطة سوداء في تاريخ البلاد، إذ بدأت الحملات الغاضبة ضد المسلمين بزعم أنهم متهمين جميعاً بالتفجيرات، وتعرض بعضهم للتهجير القسري، كما اكتسب خطاب القوة البوذية مصداقية كبيرة لدى جماهيره، وصعد نفوذ اليمين البوذي المقرب من حكومة راجاباكسا الذي ينادي باعتبار سريلانكا "دولة سينهالية بوذية" ويهدد بأنهار من الدماء في سبيل تحقيق ذلك الهدف.
وبلغ التمييز ضد المسلمين حد تدخل مسؤولين من خارج سريلانكا لإيقاف بعض الممارسات التي لا تتوافق مع الديانة الإسلامية، حيث مُنع المسلمون في عهد راجاباكسا وبالتزامن مع انتشار فيروس كورونا من دفن موتاهم، وإجبارهم على إحراق الجثث، مما استدعى تدخل رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان الذي زار سريلانكا، وطالب حكومتها باحترام الطقوس الدينية للمسلمين.
واستجاب راجاباكسا لطلب عمران خان، وأعلن السماح للمسلمين بدفن موتاهم، لكنّ القرار ألغي في اليوم التالي لتستمر المأساة بسبب ضغوط التيار البوذي المتشدد الذي يوفر دعماً سياسياً متيناً للرئيس.
"التاميل".. أين هم في سريلانكا اليوم؟
انضوى التاميليون تحت مسمى الأقليات في سريلانكا، واختفى دورهم الفاعل وحركاتهم التمردية عن الساحة، حيث أصبح التاميليون والمسلمون فئات ترزح تحت قوانين وأهواء طبقة السواد الأعظم في سريلانكا، وهم السنهاليون معتنقو الديانة البوذية.
ومع بدء الاحتجاجات ضد الرئيس راجاباكسا، حث التاميليون في بيان جماعي لهم جميع الجهات الفاعلة على اغتنام هذه الفرصة التاريخية من أجل "تغيير حقيقي لجزيرة ابتليت بعقود من الصراع العرقي".
وجاء في البيان أنّ الحكومات السريلانكية لم تستطع على مر التاريخ وأد الفتنة العرقية بين أبناء الجزيرة الواحدة، لذا قدمت جمعيات مدنية من التاميل بيانها بحسن نية، على أمل إحداث تغيير ما وسط هذه التغييرات الكبيرة التي تشهدها البلاد.
وبدلاً من مجرد المطالبة بتغيير الشخصيات، يشدد البيان على الحاجة إلى تلبية مطالب شعب التاميل في عدة مطالب رئيسية، أبرزها صياغة دستور جديد يعيد هيكلة الدولة بشكل حقيقي بطريقة تحترم الطبيعة العلمانية والتعددية القومية للجزيرة والحق في تقرير المصير.
وشدد أيضاً على ضرورة وجود محاكمات دولية بحق الجرائم الفظيعة التي ارتكبت أثناء الحرب الأهلية وبعدها، ومعالجة مطالب الاحتجاجات الطويلة الأمد من قبل عائلات المختفين والسجناء السياسيين من جميع أنحاء الشمال الشرقي، بالإضافة إلى الوقف الفوري لعمليات الاستحواذ على الأراضي من قبل السلطات الوطنية وقوات الأمن في الشمال الشرقي والتي تعد أراضٍ للتاميليين.