سجن "سوبرمان" وتنميط التعب.. هل الرجال في غزة أبطال خارقون؟
إن تركيز الإعلام المفرط على قصص النساء والأطفال والمسنين في الحروب من دون الرجال يؤسس عرفًا مغلوطًا بأن الرجال لا يشعرون أو لا يهتمون بالآلام التي تحلّ بهم نتيجة الحرب.
في ظل الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، نلاحظ أن جميع الأخبار أو التقارير الصحافية التي تصف معاناة أهل غزة، لا تكاد تخلو من عبارة "النساء والأطفال والمسنين" باعتبارهم المتضررين من الحرب، في تجاهلٍ - قد لا يكون مقصوداً - لمعاناة الرجال ولكونهم من المتضررين كأقرانهم من الإناث والأطفال وكبار السن. فالحروب والنزاعات الدموية تؤثر على الجميع، بغض النظر عن الجنس أو العمر أو العرق أو الجنسية، والقصف والمجاعات والفظائع الناجمة عن الحروب تلحق الأذى بالجميع، ما يجعل من غير العدل أن يُغفل ذِكر الرجال عند ذِكر أنواع المعاناة والعنف والعذاب التي يتعرض لها المتضررون من الحروب، ويجعل من اللاإنسانية اعتماد نهج استعطافي يُنكر معاناتهم.
جميعنا نعلم أن الحروب تتسبب في إزهاق أرواح الكثير من الأفراد المدنيين، مما يؤدي إلى مآسي بشرية كبيرة وفوضى وأحزان عميقة وجروح لا تُشفى لدى الجميع، ويتعرض البعض لإصابات بالغة وأنواع مختلفة من العجز الجسدي نتيجة القتال والتعرض للعنف والقنابل والقصف، ما قد يجبرهم على مواجهة وتحمّل العجز الدائم وتأثيرات طويلة الأمد على صحتهم الجسدية والعقلية والنفسية.
وتؤدي الحروب أيضًا إلى نزوح السكان وتشريد العديد من الأفراد والعوائل، حيث يفقد المتضررون منازلهم وممتلكاتهم وحياتهم ويكونون في حاجة إلى اللجوء والمساعدات الإنسانية، ويجدون أنفسهم بين الأضرار الاقتصادية التي حلت بهم وبدولتهم بما فيها دمار البنية التحتية وتدهور الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة والفقر، ودمار الحياة الإنسانية والتأثيرات النفسية الخطيرة بما في ذلك الصدمة والقلق والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة.
تجاهل معاناة الرجال
ويدرك المرء منّا بسهولة كيف يمكن أن تطول هذه الآثار جميع أصناف المجتمع البشري بدون تمييز، فالرجل والمرأة والطفل والمسن جميعهم ضحايا الحروب والنزاعات المسلحة، وجميعهم يعانون بالمستوى نفسه من الفقر المدقع والهبوط المعيشي والخراب والركود الاقتصادي، والإعدام المادي والتشرد والنزوح السكاني، والاضطرابات المجتمعية والاختلال والتشتت الاجتماعي، والعوز والعجز والمرض والألم، لكن عندما نقرأ الأخبار في وسائل الإعلام المختلفة، يخال لنا أن الرجال بمنأى عن كل هذه الأشكال المتنوعة من المعاناة، وأنه "بطل خارق" لا تؤثر عليه أي من تبعات الدمار التي تسببها الحروب، أو لديه قدرة تحمّل خارقة.
ولا يخفى على أحد أن وسائل الإعلام تُعد أحد المؤثرات القوية في تشكيل الوعي الجماعي وتكوين المفاهيم الاجتماعية، لذلك فإن تركيز الإعلام المفرط على قصص النساء والأطفال والمسنين في الحروب من دون الرجال يؤسس عرفًا مغلوطًا بأن الرجال لا يشعرون أو لا يهتمون بالآلام التي تحلّ بهم نتيجة الحرب، ويرسخ مفهوم "الرجولة" السام النابع من الصور النمطية التي تصور الرجال على أنهم عمالقة خارقة لا تعاني ولا تحزن، وهذا الأمر يؤثر سلبًا على صحة الرجال وسلامتهم الجسدية والنفسية، ويدفعهم لتحمل ما يفوق طاقتهم في رغبةٍ لا واعية في باطنهم لتلبية التوقعات المنمّطة التي تنتظر منهم أن يكونوا الأبطال الصامدين الذين لا تهزهم الجبال، ولا تؤثر عليهم تداعيات القتال والدمار، ولا يُهزمون ولا يظهِرون ضعفًا.
سجن "سوبرمان".. وأغلال "الرجولة"
ونتيجةً لذلك يجد الرجال أنفسهم محاصرين في سجن "سوبرمان" الذي خلقته الأعراف والدساتير المجتمعية التي جعلتهم في مستوى أعلى من البشر، ومكبّلين بأغلال الرجولة الزائفة التي تطمس طبيعتهم البشرية وتتجاهل مشاعر حزنهم وخوفهم وألمهم، فيعيشون ضغوطًا اجتماعية تجبرهم على إخفاء مشاعرهم الحقيقية، ويضطرون إلى حبس دموعهم والتظاهر بالثبات والشجاعة ليثبتوا للعالم أنهم يتمتعون بالقوة والصلابة التي يُفترض أن تكون جزءًا من الرجولة.
ومن المؤسف حقًا ما نراه على وسائل التواصل الاجتماعي حين نرى أبًا في غزة فقد أبناءه وبيته وكل ما يملكه، ويظهر في فيديو يبكي بشدة على ما خسره وعلى المحنة التي يعيشها، ثم نرى الغالبية من المعلّقين يبررون هذا البكاء بقول إن "هذا الرجل فقد الكثير لذا يجب أن يبكي قليلًا على ما حلّ به"، أو يستشهدون بحديث النبي محمد القائل "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال"، في إشارةٍ إلى أن هذا البكاء ليس بكاءً حقيقيًا وإنما مجرد نتيجة لـ"قهر الرجال"، وكأنهم يحاولون بأي طريقة تبرير هذا البكاء بصفته أمر غير طبيعي بالنسبة للرجال، في حين أن الرجال هم بشر في النهاية كالنساء، ومن الطبيعي جدًا أن يذرفوا الدموع وينتحبوا على فقدان أحبتهم ويشكوا ويحزنوا ويتألموا لما أحدثته الحرب فيهم من أوجاع وجروح عميقة لن يشفيها الزمن.
والبعض يُجادل في هذا الشأن قائلين إن الرجال أكثر صمودًا من النساء، أو أنهم أقل عاطفية وقادرين على التحمل وحل مشاكلهم بطريقة أكثر حكمة ومرونة من النساء، لكن الواقع ليس كذلك، فلا توجد أي حقيقة علمية تثبت أن الرجال هم الكائنات العقلانية الخالية من العاطفة وأن النساء هن الكائنات العاطفية الخالية من العقلانية، فمستوى الميل للعاطفة أو العقل هو كغيره من الصفات، يُصنّف ضمن الفروقات الفردية والتوجهات والميول الشخصية، وليس صفة بيولوجية يُمكن تعميمها على جنس بأكمله، فقد شاهدت العديد من النساء اللاتي لم يذرفن دمعةً واحدة على موت أعز وأقرب الأشخاص إليهن وكنّ في أقصى درجات التماسك، وفي الوقت ذاته رأيت العديد من الرجال الذين يبكون وينهارون نفسيًا لسفر ابنهم او ابنتهم أو عند زواجهم أو غيابهم لفترة، ما لا يدع مجالًا للشك في بُهتان القواعد التي سنّها المجتمع التي تُرجع التأثر العاطفي والبكاء إلى الجنس وليس الصفات والحالات الفردية.
هل النساء أكثر تضررًا على المدى البعيد؟
يمكن التفهم أن تجاهل معاناة الرجال والتركيز على النساء قد يكون مستمدًا من حقيقة أن النساء يعانون بمستوى أعلى من الرجال على المدى البعيد، أي بعد انتهاء الحرب، ولهذا يكون التعاطف معهن أكبر، فالناس تتعاطف أكثر مع امرأة فقدت منزلها من رجل فقد منزله؛ لأن الرجل بالنسبة لهم يستطيع العيش في أي مكان حتى يستطيع الحصول على مأوى، لكن المرأة أين ستعيش؟ وهل المكان "آمن"؟ أو بالأحرى. كل ذلك يدور في رأس أغلبية الناس عند مقارنة الحالتين وإبداء التعاطف، وهو ما يدفع الإعلام الاستعطافي إلى التركيز على المرأة بدلًا من التركيز على جميع الضحايا بشكل متكافئ.
إن مظاهر الألم والدمار والدماء مستمرة في غزة منذ السابع من أكتوبر، ولا يزال الرجال مصوّرين على أنهم يتمتعون بمزايا جسدية خارقة للطبيعة تحميهم من الآلام والانكسار والأحزان، وهذا الإيمان المنتشر يعزز لديهم التوقعات النمطية الخاطئة، ويستمر في كبح مشاعرهم الإنسانية الطبيعية ويجعل منهم عبيدًا لمعايير غير حقيقة خاضعين ولضغوط اجتماعية فتّاكة تحد من قدرتهم على التعبير بحرية. فالبكاء من طبيعة الإنسان، وعلميًا، فهو رد فعل طبيعي على المشاعر المتنوّعة واستجابة لحالة عاطفة أو ألم، وليست دليلًا على الضعف أو قلة الحيلة، ألم يحن الوقت لتحرير الرجال من ضغوط المجتمع القاسية والتوقعات اللاواقعية التي تترتب على مفهوم الرجولة؟ ألم يحن الوقت لإدراك أن اختلاف درجة الشعور والتفاوت في حدة الحزن هي أمور تعود لشخصية الفرد وتكوينه النفسي وصلابته وهشاشته النفسية والعقلية وليس الجنس؟