رحلة شاقّة في الحقول.. أهل الساحل السوري يواجهون غلاء اللحوم بالنباتات العشبية
في مثل هذا الوقت من كل عام، يصبح من المعتاد في الساحل السوري، رؤية مجموعات من السيدات أو الرجال يقومون بقطف الأعشاب، من الحقول أو الحدائق وحتى من على جوانب الطرقات.. فما هي هذه العادة؟ وبماذا تستخدم هذه الأعشاب؟
صباح كل يوم جمعة، تخرج راما مع والدتها وثلاثة من جاراتها في جولة في قريتهم بريف جبلة، للبحث عن "السليق"، وهي كلمة شعبية تشير إلى النباتات البرية التي تظهر في الأرض من تلقاء نفسها وتصلح للطبخ والأكل.
"كان الأمر سابقاً مثل النزهة لنا، لكن الأمر ليس هكذا الآن"، بهذه العبارة تبدأ الشابة العشرينية حديثها للميادين نت، وتقول: "صار يشوب هذه العادة شيئاً من الإجبار، كما هو معروف الأوضاع الاقتصادية سيئة للغاية، لذلك صرنا نجمع هذه الأعشاب ليس لنأكلها على سبيل التنويع، بل لأجل تعويض نقص الطعام وحتى لبيعها أحياناً".
سكين حاد وكيس كبير، هو كل ما تحتاجه النساء الريفيات للخروج في رحلة البحث هذه، لكن على كل واحدة منهن أن تكون خبيرة بما يصلح للأكل، "فليس كل ما هو أخضر يعني أنه من الممكن طبخه".
بعد أن تمتلئ أكياس المجموعة، تتفق السيدات على الذهاب إلى بيت واحدة منهن، هناك حيث يقمن بفرز هذه النباتات وغسلها وتنظيفها، استعداداً لطبخها، والذي يتم بطرق مختلفة تبعاً لكل منطقة.
تشير راما إلى الأعشاب المتكومة، وتشرح: "كلها شبيهة بالشكل لكنها مختلفة بالطعم، مثلاً الهندباء، تسلق وتقطع مع الحامض والثوم، أما "الدغنيمة" أي "بخور مريم" تطهى كما يطهى ورق العنب، ملفوفاً بالبرغل أو الأرز، "لباس القطة" نصنعها كفطائر فقط، بينما "الخبيزة" تغمس بزيت الزيتون، أو تُطبخ مع قليل من البرغل، أما البلغصون فنسلقه ثم نتركه ليبرد بعدها نعصره للتخلص من الأوبار الشوكية، ثم نضعه على نار هادئة لنضيف معها زيت الزيتون البلدي والثوم، لكن هناك بعض الناس يضيفون إليه البيض أيضاً".
لا تتميز هذه الأعشاب بطعمها اللذيذ فقط، وإنما بالفوائد الطبية الكبيرة أيضاً، فعلى سبيل المثال الجرجير الذي يؤكل كسلطة يستخدم لتقوية الدم، وله فائدة أخرى تلخصها راما بالمثل الشعبي الذي يقول: "لو عرفت المرأة قيمة الجرجير لزرعته تحت السرير".
زيادة ملحوظة في مبيعات النباتات العشبية
"خضرا يا هندبة.. خطير يا جرجير"، يرتفع صوت أم محمد في شارع الريجي الشهير باللاذقية، منافساً أصوات الباعة الآخرين لا بل يكاد يعلو عليهم أحياناً.
يقترب المارة من الزاوية التي وضعت فيها السيدة الستينية كل ما استطاعت قطفه من السليق، يقلب الزبائن بين أيديهم الباقات الخضراء الندية المرتبة، ويسألون عن السعر، بعضهم يتابع طريقه، بعضهم الآخر يشتري مُعلّقاً "حتى العشب ارتفع سعره!".
لا تلوم المرأة القروية الناس فأغلبهم موظفون حكوميون، "يعملون ويتعبون كل النهار، ثم يكون الغداء قريصة أو خبيزة!"، بحسب تعبيرها.
ابنة ريف اللاذقية متيقنة تماماً من أن "أجيال الوجبات السريعة" كما يحلو لها تسميتهم، لا يحبون هذه الأكلات لأنهم "تبرمجوا ضد كل ما لا تدخله أسمدة كيمياوية وهرمونات، وضد كل ما هو مفيد ومليء بالبروتينات"، لكن على الرغم من هذا ازدادت مبيعات أم محمد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة لأسباب تشرحها للميادين نت قائلة: "غلاء اللحوم وبقية الخضار جعل الناس الفقراء يشترون هذه الأعشاب بشكل أكبر، قديماً لم يكن الأمر كذلك، فلم نكن نهتم كثيراً ببيع هذه الأنواع لأنها متوافرة في الساحل أينما نظرت، في الحدائق والأراضي وحتى على جوانب الطرقات، من يريد كان يقطف بنفسه".
تشبّه أم محمد هذه الأيام التي نعيشها "بالسفر برلك" (النفير العام)، وتقول: "روى لنا أهلنا وأجدادنا الكثير عن المجاعة التي حدثت حينها، وكيف لجأ الناس إلى الأرض كي يتفادوا الموت، أتخوف كثيراً من أن يعيد التاريخ نفسه".
تصمت قليلاً وتتساءل: "ألم تسمعي بالمثل الذي يقول لولا القرة والجرجير كانوا ماتوا ناس كتير؟!".
الحرب والفقر فتكا بنا!
الخلاف الشهير بين محافظتي حمص وحماة على أحقية أي منهما بحلاوة الجبن، ليس الوحيد، بل هناك خلاف شهير آخر بين المحافظتين الساحليتين، لكن على سمّية "اللوف" وصلاحيته للأكل.
تفاجأت سماهر سلامة، الكنة الطرطوسية عندما سكنت إلى جانب أهل زوجها في اللاذقية، بأنهم يطلقون على اللوف اسم "سم الأفعى" ولا يأكلونه أبداً، لكن هذا لم يثنها عن جمعه كما اعتادت، وتقول للميادين نت: "يحتاج البحث عن "اللوف" إلى صبر كبير لأنه يوجد بين الأشجار وليس في مكان واحد ضمن تجمعات نباتية، ويُعرف من ساقه البيضاء التي تنتهي بورقة خضراء قلبية الشكل".
تستخدم السيدة الخمسينية قفازات لليدين وهي تقطع اللوف، لأن له تأثير حراري ويتسبب بالحساسية، ثم تغلي حمصاً وتأخذ ماءه وتضعه فوق السماق لإزالة المادة الحمضية، كون اللوف يحتاج إلى تركيز عال من الحموضة لتعطي الطعم المميز له، ولتطفئ حرارته العالية، وبعد نضجه الذي يستغرق أكثر من خمس ساعات، تقوم بتجهيز أكلة الأرز بالشعيرية، التي تقدم إلى جانبه.
لم يرث أبناء السيدة الطرطوسية منها حب اللوف وسائر الأطباق المصنوعة من الأعشاب الخضراء، لكنهم مرغمون على تناولها لأنه "لا توجد خيارات أخرى"، بحسب أم حسن التي تختم حديثها قائلة: "صحيح أن هذه الطبخات تتميز بقيمتها الغذائية العالية، لكننا في السابق وفي أوج المواسم لم نكن نقدمها إلا كعشاء خفيف أو طبق إضافي على الغداء، الحرب والفقر فتكا بنا".