جنوبيون يواصلون أعمالهم في القرى اللبنانية الحدودية: المقاومة لا تتجزأ
على الرغم من حركة النزوح الكثيفة التي شهدتها المناطق الجنوبية الحدودية إلى الأقضية الأخرى نتيجة العدوان الصهيوني على هذه القرى، إلا أن الجنوبيين لا يزالون يسطّرون بصمودهم صورة أخرى من صور النصر والثقة بالمقاومة.
في قرية الناقورة الحدودية مع فلسطين المحتلة (قضاء صور)، لا تزال الحاجة أم موسى تعيش مع عائلتها في منزلها المتضرّر من جراء القصف الصهيوني الذي طال وسط البلدة، حيث عمدت إلى ترميمه قدر الإمكان كي لا تضطرّ عائلتها للمغادرة وترك أرزاقها ومحالها.
في أثناء المشي مع أم موسى خلال تسوّقها من المحال التجارية في البلدة، روت للميادين نت بكثير من الثبات والعاطفة، عن خيار الصمود في القرية، قائلةً: "على رغم الدمار والقصف نحن لا نهاب الحرب، هذه أرضنا وأعمالنا، وإذا ظنّ العدو أننا سنتركها لكي يحتلّها فهو مخطئ وواهم، كلنا مع المقاومة، وكلّ فرد فينا يقاوم بطريقته الخاصة، ومقاومتنا نحن الأهالي هي صمودنا وبقاؤنا في أرضنا".
جولة على قرى قضاء صور المنثورة على كتف جبل عامل، كفيلةٌ بتوضيح مشهد الصمود أكثر وبنقل صورته الحيّة كما هي، فترى الناس، على رغم ما يحيط بهم من خطر وغدرٍ إسرائيلي، صامدون وصابرون، يتابعون المشهد عن كثب بعد أن أصبحوا جزءاً لا يتجزّأ منه، وعلى ألسنتهم عبارة تختزن الكثير من اليقين: "يلي إلو عُمر ما بتقتلو شِدّة".
وفي عزّ الحرب، لن تجد أبناء البلدات الجنوبية سوى في حال سعي مستمر خلف أرزاقهم وتأمين لقمة عيشهم، لم يمنعهم شيء من فتح أبواب محالهم التجارية وممارسة مهنهم الحرّة في سبيل الحفاظ على مصادر دخلهم.
صمودنا شكلٌ من المقاومة
خليل أيضاً شاب من قرية الناقورة، يمتلك مطعماً صغيراً للوجبات السريعة، لم يقفل أبوابه طيلة فترة الحرب، ولا يزال مستمراً في تقديم خدماته على أكمل وجه، رغم التراجع الكبير في حجم العمل.
عند سؤاله عن سبب بقائه وعدم مغادرة القرية إلى مناطق أكثر أماناً، أجاب بنبرة حازمة: "هذه أرضنا وأرزاقنا، أرواحنا مرتبطة بها ارتباطاً جذرياً، ليس بإمكاننا أن نتركها، ويكفيني فخراً أن يقال عني صامد، وأن أخدم الناس الصامدين في القرية".
استكملنا جولتنا في البلدة، مررنا بالعديد من المحال التجارية التي فتحت أبوابها منذ الصباح الباكر، الدكاكين، الأفران، محلات بيع الخضار واللحوم وغيرها، وفي كل محطة فيها سمعنا قصة مختلفة من قصص العناد الجنوبي الجميل.
التكافل الاجتماعي بين أبناء القرى
لم يكن خيار المغادرة وارداً أمام قاسم، الصيدلانيّ من قرية شيحين الحدودية في قضاء صور، الذي خلا كلامه من أي شك في البقاء وعدم ترك أرضه ومركز عمله، مؤكداً أنه لن يترك الناس الصامدة التي تردّدت لشراء أدويتها من صيدليته في أيام الرخاء، "واليوم أردّ جميلهم، فخدمة الناس والمقاومين هي شرف لي وأمانة في عنقي".
يذكر قاسم نموذجاً من مبادرات التكافل الاجتماعي التي حدثت معه، قائلاً: "منذ الأيام الأولى للحرب بادر عدد من الأشخاص الخيّرين لإيداع مبالغ مالية لديّ، مخصصة لتغطية تكاليف الدواء لكل من ليس لديه المقدرة على شرائه، أو قيامهم بتأمين أدوية من خارج لبنان عبر المغتربين، ومنها أدوية مرضى السرطان التي قد يتجاوز ثمنها الـ50 مليون ل.ل".
من جهته، يجد عبد وهو شاب من قرية المنصوري القريبة من الحدود أيضاً، أن بقاءه في البلدة هو ضروري من نواحٍ عديدة، إذ فضلاً عن كونه رب أسرة ويتابع عمله في تأمين شبكة الإنترنت لمنازل الأهالي، إلا أنه يؤدي أيضاً دوراً آخر في تنظيم عملية تأمين المساعدات وتوزيعها على العائلات.
وفي هذا السياق، يشير عبد إلى أن عدد العائلات المستفيدة من برنامج المساعدات المالية والغذائية في البلدة بلغ ما يقارب الـ150 عائلة، وأن مصادر دعم هذا البرنامج "يعتمد على المغتربين من أبناء القرية وغيرهم من جهة، وعلى أصحاب الأيادي البيضاء من أبناء البلدة من جهة أخرى".
قرى صامدة مقابل مستوطنات مذعورة
المحطة الأخيرة في قرى قضاء صور كانت مع عدد من أهالي البياضة، القرية الساحلية الصغيرة التي يعمل معظم سكانها - لا يتعدى عددهم الـ500 نسمة - في مهنة صيد الأسماك وتربية الماشية والزراعة.
أبو علي، الرجل الخمسيني الذي ورث عن أبيه مهنة الغطس وصيد الأسماك، لم يترك القرية طيلة أيام الحرب، واستمر بممارسة عمله عبر قارب صيد صغير يملكه، وقد علّل سبب بقائه قائلاً: "نحن ثابتون هنا، نصطاد الأسماك يومياً تحت أنظار الطائرات المسيّرة التي لا تفارق سماءنا للحظات، هم يراقبوننا بخوف ونحن نهزأ بهم لأننا لا نهابهم، وكيف نخاف منهم ونحن نعلم أننا تحت عباءة قيادة حكيمة؟ نحن صامدون هنا بينما في الجهة المقابلة الحياة معدومة ومرعبة".
أبو حسين، هو أيضاً رجل مسنّ من أبناء القرية، ينطلق كل صباحٍ بقطيعه إلى المساحات الخضراء المحيطة بها برفقة أحد أبنائه، قابلناه قبل انطلاقه إلى عمله، أكد أن "آباءنا وأجدادنا لم يكونوا يميّزون بين أرض لبنانية وفلسطينية، كانت الأرض واحدة والروح واحدة، والدخيل اليوم هو ذاك الصهيوني الذي غادر مستوطناته المحاذية عند أول ضربة، ونحن باقون هنا اليوم لنكون إلى جانب المقاومين".
تعبق رائحة الخبز الجنوبي في منزل الحاجة أم إبراهيم، التي اعتادت أن تحضّر "خبز المرقوق" الطازج على نحو شبه يومي، وأن تبيعه لتساند بثمنه زوجها في تحمّل تكاليف العيش.
أم إبراهيم لم تفارق منزلها، ولم يمنعها شيء من الاستمرار في تحضير الخبز وإن كان بكمية أقلّ من قبل، فهي اليوم تُعدّ الخبز لعائلتها ولكل من أراد ذلك من أبناء البلدة، من دون أن تكون هناك حاجة للانتقال إلى مناطق أخرى لتأمينه.
على الرغم من حركة النزوح الكثيفة التي شهدتها المناطق الجنوبية الحدودية إلى الأقضية الأخرى (صور، الزهراني ، النبطية..) نتيجة العدوان الصهيوني على هذه القرى، إلا أن الجنوبيين ما زالوا يسطّرون بصمودهم صورة أخرى من صور النصر والثقة بالمقاومة وقيادتها، ويوجّهون بذلك رسالةً للعدو لا يمكنه تجاهلها، مضمونها أن صمودهم هذا هو أقوى من تهديداته، وتاريخهم مع هذه الأرض أقدم من وجوده.