تسييس اللباس.. الاحتشام موضة عالميّة ممنوعة على المحجّبات في أوروبا
في الوقت، الذي تتصاعد "الموضة المحتشمة" في أوروبا والغرب، تُحظَر الألبسة المحتشمة على المحجبات في مدارس فرنسا، التي ارتدت سيّدتها الأولى فستاناً شبيهاً بالعباءة!
"رسمياً، الأخت بريجيت جزء من الأمة! الإسلام السياسي يُفسد مؤسساتنا".
"الآن سترتدي طالبات الثانويات فستان كاميلا، وسيُحال الأمر على مجلس الدولة".
بهذه العبارات، توجّه منتقدون إلى بريجيت ماري كلود ماكرون، زوجة الرئيس الفرنسي، والملكة كاميلا، زوجة ملك إنكلترا، بعد ارتدائهما فستانين يشبهان العباءة التي ترتديها النساء المسلمات، في أثناء مأدبة عشاء أعدّها ماكرون لملك إنكلترا تشارلز الثالث وزوجته، قبل نحو أسبوع.
جاءت هذه التعليقات بعد حظر الحكومة الفرنسية ارتداء العباءات في المدراس، في قرار حظي بدعم قوي من الرئيس إيمانويل ماكرون، في الوقت الذي تحتضن باريس نسقاً جديداً من الموضة، هو "الموضة المحتشمة"، الشبيهة بلباس المحجبات.
الأزياء المحتشمة... اتجاه صاعد في الموضة
عباءة، حجاب (في بعض الأحيان)، ملابس فضفاضة، ولا يَظهر شيء من أجسادهنّ سوى الأيدي وجزء من الوجه، هكذا ظهرت عارضات الأزياء في باريس، حيث عُرضت أحدث التصاميم لنحو 800 علامة تجارية، تابعة لمجموعة الأزياء المحتشمة.
سلّط عرض الأزياء هذا، الذي جرى في 6 و7 أيار/مايو الماضي، الضوءَ على نسق معيّن من "الموضة المعاصرة"، وهو "الموضة المحتشمة في باريس".
اللباس المحتشم يشكّل اليوم اتجاهاً صاعداً في عالم الموضة، لا في فرنسا وحدها، بل في أوروبا والغرب ككل. وفي الأعوام الأخيرة، انخرط عدد من العلامات التجارية المعروفة في إنتاج الأزياء المحتشمة.
لم تعد للموضة المحتشمة سوقٌ متخصصة صغيرة الحجم، محصورةٌ في شريحة من المستهلكين المنتمين إلى دين أو معتقد أو منطقة جغرافية معينة، بل باتت اتجاهاً يستسيغه المستهلكون من جميع أنحاء العالم، مرتدين الملابس غير الكاشفة، والتي لا تُبرز تفاصيل الجسم بصورة مفرطة.
وفي حين يُفترض أنّ النساء المسلمات، في إيران وتركيا والسعودية والإمارات وغيرها من دول الشرق الأوسط، هنّ أكثر من يرتدي هذه الموضة، فإنّ طلباً كبيراً جداً يأتي من العملاء في الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروربية، حيث يشكّل ارتداء الملابس المحتشمة، في الوقت الحالي، "المزاج السائد" خارج المنطقة، من دون أن يتعلق الأمر بالضرورة بالدين أو الإيمان.
اقتصادياً، مع استمرار اتجاه الموضة المحتشمة في التصاعد، تتزايد الفرص التجارية المتاحة لعلامات الأزياء وتجار التجزئة في مجال هذا النوع من الأزياء، إذ تشير تقديرات مركز تنمية الاقتصاد الإسلامي في دبي في الإمارات إلى أنّ سوق العباءات والحجاب ستصل إلى نحو 320 مليار يورو (أكثر من 337 مليار دولار)، هذا العام، بزيادة تبلغ 20%، وذلك خلال 5 أعوام فقط.
ووفقاً لتقرير حالة الاقتصاد الإسلامي العالمي لعام 2022، ارتفع الإنفاق على الأزياء المحتشمة بنسبة 5.7% في عام 2021، من 279 مليار دولار إلى 295 مليار دولار، في حين يُتوقَّع أن يصل القطاع إلى ما يزيد على 300 مليار دولار هذا العام.
مسموح للأوروبيات... ممنوع على المسلمات
اكتسب مفهوم الموضة المحتشمة جاذبيةً في العالم الغربي، إذ إنّه "يُثري مشهد الأزياء الخاص به"، بحيث تجد النساء، من خلفيات ثقافية متعددة، أرضيةً مشتركةً في رغبتهن في التعبير عن أنفسهنّ ضمن تيّارين، إما جمالي بحت، وإمّا ديني وإيماني.
كذلك، يعتقد كثيرون أنّ صعود الموضة المحتشمة في الغرب هو شهادة على قوة الموضة، كأداة من أجل التعبير الثقافي.
لكنّ هذا التنوع في التيارات يصطدم بازدواجية معايير سلطوية. فالموضة التي تُنفَق عليها المليارات، وتُخصّص لها العروض والأسواق، محظورة قانونياً على المحجّبات اللواتي يعود ارتداؤهنّ الملابس المحتشمة إلى ما قبل صعود هذه الموضة، بل إنه ليس مرتبطاً بها.
في كانون الثاني/يناير الماضي، نشرت النسخة الفرنسية من مجلة "Vogue" صورةً للممثلة وعارضة الأزياء الأميركية الإيطالية، جوليا فوكس، واضعةً غطاءً على رأسها، وأرفقت الصورة بتعليق: "نعم للحجاب (Yes to the headscarf)".
وفي حين أنّ الصورة "أشعلت النار"، فإنّ الحديث لا يتعلق بالمنشور نفسه، بل بقضية أكبر، هي التمييز ضد الإسلام والمسلمات، في فرنسا تحديداً، وما تمارسه الحكومة من تضييق عليهنّ، من خلال حظر لباسهنّ وكل ما يتعلّق بالدين الإسلامي في المدراس وأماكن العمل.
المغربية البرتغالية،ـ المقيمة بعاصمة الموضة باريس، سارة كويلو أنصاري، وهي صانعة محتوى متعلق بالموضة، عبّرت عن استيائها من المنشور، بسبب ما قالت إنه "تمييز صارخ" ضدّها. ففي وقت دعمت "Vogue" الحجاب على رأس امرأة بيضاء غير مسلمة، تواجه فتيات مسلمات في أوروبا رفضاً مقونناً لارتدائهنّ الحجاب، أو الأزياء المحتشمة.
بعد الحجاب... فرنسا تحظر العباءات في المدارس
في عام 1989، دخل قانون حظر الحجاب حيّز التنفيذ في المدارس وأماكن العمل الفرنسية. وبعده، وتحديداً في عام 2011، حظر مجلس الشيوخ الفرنسي استخدام "الشارات الدينية" في البطولات الرياضية، بما في ذلك الحجاب.
واصلت الحكومة الفرنسية تضييقها على المسلمات، إلى الحد الذي اقترحت عنده حظر الحجاب وغيره من "الرموز الدينية" في الأماكن العامة، واصفةً إياها بـ"التعبير المتطرّف عن الإيمان".
وبعد نحو عقدين من حظرها الحجاب، ها هي فرنسا تحظر اليوم العباءة في المدارس الفرنسية، بسبب "انتهاكها القوانين العلمانية في البلاد"، وفق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حتى إنّ المتحدّث باسم الحكومة، أوليفييه فيران، وصف ارتداءها بـ"الهجوم السياسي".
هذا القرار حظي بدعم من ماكرون، الذي حثّ على الحزم في تطبيق القرار، في وجه محاولة الأقلية المسلمة "تحدي الجمهورية والعلمانية".
بدوره، أعلن وزير التربية والتعليم الفرنسي، غابريال أتال، أنّ التلميذات اللواتي يرتدن المدارس لابساتٍ العباءات سيُمنعن من دخول الصفوف. وفي الوقت نفسه، أكد أنّ المؤسسات التعليمية "سترحّب بهنّ، وستشرح لهنّ معنى هذا الحظر".
والأمر طال الفتيان أيضاً، إذ أعلن أتال أنّ القمصان الطويلة ممنوعة أيضاً، مضيفاً أنّ العباءة والقميص الطويل "يعبّران عن انتماء ديني في البيئة المدرسية، ولا يمكن التسامح مع ذلك".
"قرارات سياسية"
ورأت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية أنّ الرئيس الفرنسي يضرب عصفورين بحجر واحد، عبر هذا القرار، فيرسل إشارةً إلى اليمين، ويقسّم اليسار.
وعلى الرغم من تخلي الرئيس الفرنسي عن أي نية لتوسيع ائتلافه الحالي، ليشمل أحزاباً أخرى، في أعقاب هزيمته في الانتخابات البرلمانية، العام الماضي، فإنّه لا يزال يسعى للحصول على دعم من المحافظين اليمينيين، بحسب الصحيفة.
وأشاد هؤلاء المحافظون، الذين دعوا إلى توسيع نطاق الحظر على الرموز الدينية ليشمل الجامعات، بالقرار، كما هو متوقع. وحتى حزب التجمع الوطني، اليميني المتطرف، والذي عادة ما يبقى على مسافة من إدارة ماكرون، أشاد بخطوة الحكومة.
وبينما يتشدّد ماكرون في حديثه عن العلمانية، رأت "بوليتيكو" أنّ الهدف هو تأكيد أنّ حزب النهضة، الذي يتزعّمه ماكرون، قادر على التغيير وتقديم التنازلات بشأن القضايا، التي تشكل الدعامة الأساسية لليمين.
أما في أوساط اليسار، فأثار القرار سخطاً، بحيث اتهمت النائبة البرلمانية اليسارية، كليمنتين أوتان، الحكومة بمحاولة "ضبط" ملابس النساء.
إلا أنّ الاستياء من القرار لم يكن محلّ اعتراض لدى كل اليساريين الفرنسيين، الأمر الذي كشف انقسامات داخلية بشأن العلمانية داخل ائتلاف "نوبيس" اليساري.
بدورهم، رحّب الاشتراكيون والشيوعيون بالحظر، "تماشياً مع تاريخ الحزبين العلماني، ومعارضتهما نفوذ الكنيسة الكاثوليكية".
من جهتها، قالت لورين باكير، الأكاديمية في جامعة "ستراسبورغ" والمتخصصة بالقانون والعلمانية، إنّ "توسيع نطاق تعريف ما هو رمز ديني أمر خطير للغاية، وخصوصاً عندما تقول اللواتي يرتدين العباءات إنّها لباس ثقافي وليس دينياً".
وبحسب بكير، فإنّ تقييد الحريات الدينية، باسم العلمانية، "يستند إلى أسس قانونية ودستورية... وبينما نعمل على تقليص هذه الحريات بصورة متزايدة، نواجه قرارات أصبحت سياسية أكثر فأكثر".
من هنا، يمكن القول إنّ القرارات المتعلقة باللباس في الواقع سياسية، فهي لا تنشأ في الفراغ. وفي حين يمكن أن تكون الموضة ممتعةً ومبتكرةً، ووسيلةً من وسائل التواصل البشري، إلا أنّها تبدو في بعض الأحيان متأثرة بالسياسة أيضاً.
وما يدلّ على ذلك مشهدان متناقضان: فحين ترتدي عارضات الأزياء وزوجات المسؤولين الأوروبيين ثياباً شبيهةً بما ترتديه المحجبات، فإنّ الأمر يُسمّى موضة، لكنْ حين ترتديها المحجّبات أنفسهنّ يصبح الأمر "انتهاكاً للعلمانية".