تاريخ صور يتجاوز الإبادة.. المدينة الساحلية الصغيرة تنهض من قلب النار
صور، أو "سيدة البحار وقاهرة الشطآن" كما يسمّيها أبناؤها، تتعرض اليوم لتدمير وحشي ممنهج من الطائرات الإسرائيلية، التي باتت تقصفها بشكل شبه يومي، مستهدفة أحياءها السكنية وأسواقها التجارية وكذلك آثارها التاريخية.
لم يترك مصطفى منزله في مدينة صور منذ أكثر من شهر على الحرب، يغادر الحي الذي يقيم فيه عند ورود أي إنذار بإخلائه، ليعود إليه متفقداً ما حصل فور انتهاء القصف الإسرائيلي. ولأنّ "صور هي مدينة الحب والحياة" قرر مصطفى ألا يغادرها، "هي وجهة كل اللبنانيين لا الجنوبيين وحسب، مُقدّمة على امتدادها الجغرافي الصغير أبهى صورة عن التنوع الحضاري والإنساني والوطني".
"سيدة البحار وقاهرة الشطآن" كما يسمّيها أبناؤها، تتعرض اليوم لتدمير وحشي ممنهج من الطائرات الإسرائيلية، التي باتت تقصفها بشكل شبه يومي، مستهدفة أحياءها السكنية وأسواقها التجارية وكذلك آثارها التاريخية.
لم تمنع الحرب الناشط الاجتماعي وابن مدينة صور هشام نجدي، من تسخير كل الوسائل والإمكانات المتاحة لديه لخدمة أهل المدينة لا سيما الصامدين، فالشاب الذي يدير صفحة سياحية رسمية للمدينة على وسائل التواصل الاجتماعي "Tyre page"، عمد لبث أخبار المدينة والمنطقة خلال الحرب، وإنشاء مجموعات على تطبيق "واتساب" ضمت ما يقارب الـ15000 مشترك لإطلاع المشتركين بتفاصيل الغارات والإنذارات والضحايا، والتي يستقي عدد كبير منها من فرق الإسعاف والدفاع المدني الموجودين هناك، فضلًا عن التنسيق مع أصحاب المبادرات الفردية في المدينة. ولأنّ "صور هي أمي"، فإن كل ما يقوم به هشام هو "فداء للمدينة وللمقاومة".
"صور هي الملجأ والأمان"، لم تسعف الكلمات الممثلة سالي بسما في وصف حبّها وانتمائها لمدينتها صور، فالمدينة بالنسبة لها، ببحرها وشوارعها وأهلها وحجارتها المدمّرة "هي الحياة". انطلقت بسما من مواهبها وأعمالها الفنية لتنقل صورة مدينتها الصغيرة إلى العالم، من خلال مشاركتها في الوثائقيات والمسلسلات، لجذب المخرجين والمنتجين لتنفيذ أعمالهم في هذه المدينة.
قبلة سياحية
لطالما كانت المدينة الساحلية الصغيرة مقصداً سياحياً لزوّار من مختلف المناطق وحتى الدول، بصفتها مركزاً رئيسياً للتسوق والاستجمام في لبنان. في هذا الإطار، أوضح نائب بلدية صور صلاح صبراوي للميادين نت أن العوامل السياحية تشكل الأساس في الحركة الاقتصادية للمدينة، لا سيما وأنها تتمتع بموقع جغرافي مميز (شبه جزيرة)، وتضم مواقع أثرية مهمة شاهدة على أربع حضارات تاريخية، وهذا التميز السياحي جاء بشهادة مؤسسات دولية عدّة.
تضاهي صور بشاطئها الرملي كل شواطئ العالم، التي يمتد على طول 3 كلم، ويُستثمر سنوياً ضمن مشروع سياحي تنظمه البلدية، مستقطباً الآلاف من الزوار والسياح (ما بين 700 و800 ألف زائر سنوياً)، ولهذا المشروع مردود كبير على صندوق البلدية من جهة، وعلى الحركة الاقتصادية واليد العاملة في المدينة ومحيطها من جهة أخرى.
ومن الساحل الرملي إلى الشارع البحري أو كما يعرف بالـ"كورنيش البحري"، الذي يضم تقريباً 28 محالاً تجارياً (مطاعم، مقاهي، فنادق، وبيوت للأجار)، يتوافد المستثمرون إليه على نحور مستمر من مختلف المناطق اللبنانية. وتوفر المؤسسات الواقعة في نطاقه الآلاف من فرص العمل لأبناء المدينة ومحيطها، كما تنظم البلدية نشاطات عدة فيه لا سيما خلال فترة الأعياد.
المدينة التي تعود نشأتها إلى العام 1000 قبل الميلاد، ساهم سكانها بشكل لافت وفاعل في قيام التاريخ الإنساني فيها. ويقول علي بدوي مدير الآثار في المدينة، للميادين نت، أنها "من أعرق المدن التاريخية في العالم، ومدرجة على لائحة التراث العالمي منذ 1984، منها جاء قدموس الصوري الذي نشر الأبجدية حول العالم، كما تميّز أبناؤها تاريخياً بتقدمهم بعلم الفلك والنجوم ورسم الخرائط البحرية".
وفقًا لبدوي، فقد سيطر أبناء صور في حقبة من الزمن على طرق التجارة العالمية وبنوا حضارة حول البحر المتوسط بداية الألف الأول ما قبل الميلاد، وقد أنشأت الملكة أليسار مدناً مختلفة حول شواطئها كقرطاجة وغيرها، ولاحقاً أصبحت جزءاً من الامبراطورية اليونانية ومن ثم الرومانية، بالرغم من مقاومتها للاسكندر المقدوني ووقوفه أكثر من ستة أشهر على أبوابها.
ينسب لأبناء صور القدامى اكتشافات عدة كالأورجوان ومادة الزجاج الشفاف وصناعة السفن، وتحتلّ الآن المركز السياحي الأول في المنطقة، وقد وصل عدد الزائرين لمراكز آثارها لما يقارب الـ100 ألف زائر سنوياً، وتواجه معالمها الأثرية اليوم خطر التدمير والقصف الإسرائيلي كما في كل الحروب السابقة.
العيش المشترك
لم يقتصرّ تميّز المدينة على العنصر السياحي والتجاري، فالتنوع الديمغرافي والسكاني الذي تتمتع به، منحها طابعاً خاصاً على صعيد لبنان والعالم. تضم صور تجمعات سكانية كبيرة، حيث بلغ عدد سكانها ما يقارب الـ 60000 نسمة، يعيش فيها لبنانيون من مختلف الطوائف والمذاهب فضلاً عن أعداد أخرى من جنسيات عربية مختلفة. يعود تنوع المدينة الديمغرافي، وفقاً لشريف بيطار، ابن المدينة المتخصص في الهندسة المعمارية، إلى عام 1750 حين قام حاكم المدينة حينها الشيخ عباس النصار بوضع مخطط لها، وقد كان معظم سكانها من الطائفة الشيعية يعملون في الزراعة، لذا استقطب الحاكم سكاناً من الطوائف المسيحية والسنية للعمل في مجال التجارة وصيد الأسماك.
المخطط الجديد للمدينة تضمن إنشاء مبنى إداري وكنيسة ومسجد، وحارة مسيحية وأخرى إسلامية، وساهم ذلك في تعميق حالة الانصهار بين أبناء المدينة باختلاف مذاهبهم، وفق بيطار، "وقد كرّسها السيد موسى الصدر على نحو كبير جداً، ما منع عنها تداعيات الحرب الأهلية اللبنانية، لتصبح صور بذلك نموذجاً للعيش المشترك".