بيوت فلسطين سجونٌ صغيرة.. نساء في مواجهة الحبس المنزلي

لوحظ، خلال العامين الماضيين، قيام الاحتلال بتحويل عدد من النساء الفلسطينيات في الأراضي المحتلة عام 1948 والقدس المحتلة إلى "الحبس المنزلي"، بموجب تهم التحريض والتماهي مع التنظيمات "الإرهابية"، أو تجنيد أموال لـ"تنظيمات معادية".

  • بيوت فلسطين سجونٌ صغيرة.. نساء في مواجهة الحبس المنزلي
    بيوت فلسطين سجونٌ صغيرة.. نساء في مواجهة الحبس المنزلي

تعيش النساء الفلسطينيات في مساحة يمكن وصفها بأنها ما دون الحرية، نتيجة وجودهن تحت سيطرة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يحاول جاهداً التحكم في معاني الحرية وتمثلاتها وأشكالها، عبر تحويله فلسطين المحتلة من رأس الناقورة شمالاً حتى أم الرشراش جنوباً إلى سجن كبير مليء بسجون صغيرة ومتنوعة، تهدف كلها إلى السيطرة على الذات الفلسطينية، وصهر وعيها وإذابة فعّالية وجودها.

في المقابل، تحاول الفلسطينيات دائماً المقاومة، فانياتٍ أعمارهنّ الماضية والمقبلة، باحثات ومستكشفات ومُبتكرات منافذ للحرية، ابتداءً من حيزهن الاجتماعي والإنساني الأول المعروف بـ"البيت"، وصولاً إلى حيزهن الاجتماعي والسياسي والثقافي الكبير المُسمى "الوطن ".

يكتسب" البيت"، في السياق الاستعماري في فلسطين المحتلة، خصوصية، فهو ليس فقط "المساحة الحميمية" التي يمتلكها الفرد لخلق حيز تواصل اجتماعي مع العائلة، ولتلبية احتياجاته الفسيولوجية الفطرية كالنوم والطعام والشراب، بل يتعدّى ذلك ليكتسب بُعداً سياسياً إضافياً. فالبيت في فلسطين المحتلة، وتحديداً في مدينة القدس، هو هوية، وأداة وجود، ومقاومة، ووسيلة بقاء وصمود، وحلم، وهو معنى من معاني الحرية الكثيرة.

لذلك، عُدّ "البيت" وسيلة أساسية من الوسائل الاستعمارية التي يستخدمها المُستعمِر لإذلال المُستعمَر والسيطرة عليه، فأول ما يُهدَّد به الفلسطيني هو بيته، فإمّا يُصادَر ويُستَولى عليه، كما حدث مع آلاف البيوت، التي صودرت في إبّان نكبة عام 48 ليُشرَّد أصحابها وتُصبح ملكاً للغرباء المستعمرِين، بينما يبقى أصحاب البيت الأصليون مهجَّرين ولاجئين، أو يُهدَم ليتحول إلى كومة حجارة أمام أعين أصحابه عقاباً على مشاركتهم في أعمال مقاومة، كما يحدث دائماً مع بيوت الشهداء أو الأسرى، أو يغدو "حلماً" يتخيله الشبان والشابات، ويضعونه في قائمة الأحلام غير المحقَّقة. فامتلاك البيت في القدس أصبح بمثابة معجزة نظراً إلى ارتفاع ثمنه، وهو أيضاً "حلم" يزور طيفه عقول الأسرى والأسيرات وقلوبهم في سجون الاحتلال، ليذكّرهم بوجودهم  وامتدادهم الطبيعي في الحياة وخارج أسوار السجن.

من جهةٍ أُخرى، يمكن أن يُستخدم هذا البيت سجناً لأحد أفراده، تماماً كما يحدث في "الحبس المنزلي". فعلى الرغم من عدم منطقية الحالة، بسبب كثرة التشوه المخبأ في معانيها وتمثلاتها، فإنّ الفرد يغدو حبيس جدرانه التي تفقد حميميتها فجأة، مُتحولة إلى فضاءٍ موحش، وفارضة سلطة هجينة. فهي سلطة ذات طابع مُرّكّب: طابع استعماري وطابع اجتماعي. وتكمن قمة خطورتها في أنها غير مرئية أو محسوسة، بل تعمل بصورة ناعمة مستهدفة الذات بكل مكنوناتها، ومحاولة إحداث اختراق عميق في وعي المُستعمَر ولاوعيه.

يحاول الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي جاهداً، من خلال لجوئه إلى الأساليب العقابية الناعمة، وتحديداً "الحبس المنزلي"، عبر التعامل مع المُستعمَرين، أن يحتل مشاعر  المُستعمَر ووعيه، من خلال "احتلال الوعي"، أو "احتلال المشاعر"، عبر فرضه نوعاً معيناً من المشاعر على المُستعمَر: "الخوف"، " العزلة"، " القلق"، ونزعه نوعاً آخر من المشاعر، وهي "الأمان"، "الحرية"، "الإنجاز".  والفرض والنزع هذان يأتيان في إطار محاولة الضبط والسيطرة على الذات المُستعمَرة بصورة غير مرئية ومحسوسة عبر إقصائها. وهنا تحديداً تكمن خطورة هذه الأداة، وبالتالي تتضح الأهمية والضرورة للحديث عنها، بهدف التوعية عبر طرائق التعامل معها ومقاومتها.

تجربتي في الحبس المنزلي

لوحظ، خلال العامين الماضيين، قيام الاحتلال بتحويل عدد من النساء الفلسطينيات في الأراضي المحتلة عام 1948 والقدس المحتلة إلى "الحبس المنزلي"، بموجب تهم التحريض والتماهي مع التنظيمات "الإرهابية"، أو تجنيد أموال لـ"تنظيمات معادية".

في هذا السياق أتحدث عن تجربتي في الاعتقال، وتحويلي إلى الإقامة الجبرية والعمل الاجباري المذِلّ في مؤسسات حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بحيث اعتُقلتُ في شهر أيلول/سبتمبر 2022 وتحوّلتُ إلى الحبس المنزلي مدة 10 شهور، ثم فُرضت عليّ عقوبة "العفودات شيروت" (الحبس المنزلي).

أدرك تماماً أننا نواجه حرباً ضد حرية الرأي والكلمة، وكل ما ينفَّذ ضدنا من عقوبات يأتي في سياق محاولة إذلالنا وضبطنا والسيطرة علينا، لكننا نقاوم دائماً، كنساءٍ، هذا العنف الاستعماري، سواء عبر وظائفنا البيولوجية المتعلقة بأمومتنا وتربيتنا جيلاً واعياً، أو من خلال أدوات الكتابة والرسم. نفعل ذلك لأننا لا نريد أن نخسر أنفسنا، وكي نبقى صامدات.

اقرأ أيضاً: الصحافية لمى غوشة تكسر حبسها المنزلي.. ماذا قالت للميادين نت؟

سجينات حوّلن بيوتهنّ إلى "عوالم خارجية" موازية

  • الناشطة الفلسطينية في مجال الإغاثة الإنسانية آية الخطيب
    الناشطة الفلسطينية في مجال الإغاثة الإنسانية آية الخطيب

من بين سجينات المنازل أيضاً عُرفت الناشطة في مجال الإغاثة الإنسانية والأُم لطفلين آية الخطيب، من قرية عرعرة، في المثلث المحتل، والتي اعتُقلت في السابع عشر من شباط/ فبراير من عام 2020، وخضعت للتحقيق لدى جهاز الاستخبارات الإسرائيلية عدة أسابيع قبل تقديم لائحة اتهام ضدها، يوم 18 آذار/مارس 2020، ليتم اعتقالها فعلياً على خلفية الملف عاماً وأربعة أشهر، أمضتها في سجن "الدامون" قبل أن يتم تحويلها إلى الحبس المنزلي مع القيد الإلكتروني في قرية بسمة طبعون وفي قرية زلفة، وحُوّلت قبل عدة أشهر إلى الحبس المنزلي في قريتها عرعرة، وسُمح لها بالخروج من منزلها مدة ساعتين في اليوم.

لم تشفع هذه الأعوام من الحبس المنزلي والحبس الفعلي لآية في إصدار حكم جديد بحقها، فقامت الأخيرة بتسليم نفسها إلى سجن الدامون من أجل إمضاء محكوميتها، والبالغة 4 أعوام، في الثامن عشر من أيلول/سبتمبر 2023.

قضية آية تعيدنا بالذاكرة إلى قصة دارين طاطور، الناشطة السياسية والاجتماعية من بلدة الرينة، قضاء الناصرة المحتلة، والتي اعتقلها الاحتلال عام 2015 بسبب قصيدة كتبتها ضده، بعنوان "قاوم يا شعبي"، ونشرتها في مواقع الاتصال الاجتماعي. ودامت محاكمتها بزعم التحريض على العنف والإرهاب وتأييد "منظمة إرهابية" ثلاثة أعوام متتالية، أمضتها بين السجن والاعتقال البيتي والمنفى والإقامة الجبرية، وحُكم عليها في النهاية بالسجن فترة خمسة شهور.

تقول دارين، في حديث خاص بالميادين نت: "في الإقامة الجبرية، تتباين كل المعاني. يصبح أهلك هم السجانون لك، وغرفتك هي الزنزانة، ولا تمتلك أي مساحة لترى السماء، والهواء، والبحر. وتصبح منعزلاً تماماً عن الحياة الاجتماعية. كل البيت أصبح في عيني سجناً رمادياً، فأصبح كل ما يحيط بي شبيهاً بالجدارن والأبواب الموصدة والقضبان، ولم أتنفس حريتي إلا عن طريق الكتابة والتصوير".

لم تكسر هذه السلسة من العقوبات دارين، فواصلت نشاطها، سياسياً واجتماعياً، بحيث شاركت في تظاهرات أمام سجن الدامون للمطالبة بإطلاق سراح الأسيرات من السجون الإسرائيلية، وأقامت معرضاً فوتوغرافياً بعنوان "أنا أسيرة رقم 9022438"، وثّقت فيه مراحل وجودها في الاعتقال والإقامة الجبرية، محوّلة تجربتها القاسية إلى وعيٍ عام.

لا يستهدف الحبس المنزلي النساء الناضجات في العمر والتجربة فقط، وإنما يمتد شبحه أيضاً ليطال الفتيات الصغيرات في السن. وهذا ما حدث مع الفتاة المقدسية زينة عبده، التي تبلغ من العمر 17 عاماً، وهي من سكان بلدة جبل المكبر في القدس المحتلة. ففي تاريخ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2023، سلمت زينة نفسها إلى سجن الرملة لتُمضي محكوميتها البالغة 6 شهور بتهمة التحريض في شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك بعد إمضائها مدة عام ونصف عام في الإقامة الجبرية.

تقول زينة: "كانت فترة قاسية وصعبة، وحُرمت من التوجيهي (امتحان الثانوية العامة)، وحُرمت أيضاً من مشاركة أهلي في عدة مناسبات، ومُنعت الوصول إلى باب المنزل. قيود كثيرة، ومضايقات عبر اقتحام المنزل كانت مستمرة طوال فترة الحبس المنزلي".

جدير بالذكر أن الحبس المنزلي هو وسيلة استعمارية توارثتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن سلطات الانتداب البريطاني، لتفرضها على الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة. وتسعى من خلالها للتضييق عليهم والتنكيل بهم. ولا تنفكّ تفرضه على جميع شرائحهم، وخصوصاً الأطفال والنساء . ويتضمن "الحبس المنزلي" احتجاز الشخص داخل بيته الخاص، أو بيت آخر، طوال المدة التي تبحث فيها محكمة الاحتلال في ملفه، إلى حين انتهاء الإجراءات القضائية بحقه، وإصدار المحكمة حكمها في قضيته، وقد تصل مدة الحبس إلى أيام، أو أسابيع، أو أشهر، أو عام، أو أكثر، ولا تُحتسب هذه الفترة من الحكم الفعلي الذي يصدر لاحقاً.