بين الجيرة و الدّعابة والنّسابة.. خلافات أزليّة بين المدينتين السوريتين حمص وحماه
حمص وحماه، المدينتان السوريتان الجارتان اجتمعتا على المصاهرة والمودّة والمعاشرة الطيبة، ومنذ زمن طويل، ظهرت بينهما خلافات على عدة أمور.
يا ترى، هل نهر العاصي حمصي أم حموي؟ وهل تئنّ نواعير حماه غضباً من دعابات الحماصنة، أم حنيناً وحبّاً لأهلها الحمويين؟
حمص وحماه، المدينتان السوريتان الجارتان اللتان يرويهما نهر العاصي وتطعمهما بساتينه وحقوله الواسعة، تجاورتا جغرافياً، واجتمعتا على المصاهرة والمودّة والمعاشرة الطيبة، حيث يتفاخر كِلا الطرفين بأنّ أخوالهما حماصنة وحمويين.
منذ زمن طويل، ظهرت بينهما خلافات على عدة أمور، منها أصل النسب، فمنذ الفتح الإسلامي جاء عرب قبيلة قيس واستوطنوا حماه، وجاء اليمنيون واستوطنوا حمص، حيث كانت طبيعة المدينتين ساحرة، لكنّ القبيلتين حملتا معهما خلافاً من وطنهما الأصلي؛ هذا الخلاف استمر وتنوّع عبر الأزمان.
أهل المدينتين يطلقون ألقاباً على بعضهما البعض، مما يثير الضحك والسخرية وخفة الظل أكثر من السخط والغضب، فأهل حماه يقولون إنّ الحماصنة "جدبان"، وأهل حمص يطلقون على الحمويين لقب "العوران"، وقصة عوران حماه جاءت نتيجة أجواء المدينة الجافة، وغبار هوائها الذي يؤدي إلى انتشار أمراض العيون والعمى بين أهلها.
الخلاف على نهر العاصي
نهر العاصي ينبع من لبنان ويسير شمالاً باتجاه سوريا ماراً بحمص ثم حماه وسهل الغاب، حتى يصبّ في البحر في رحلة مليئة بالعطاء والجمال، فأول طريقه يكون في حمص وتكون مياهه صافية نوعاً ما، وعندما يعبر أراضي حماه يختلط ماؤه برواسب وأتربة، وحديثاً بقايا معمل السكر مما يعكّر صفاء مائه، وهنا يلقي الحمويون الاتهام على جيرانهم الحماصنة بأنهم السبب في تلوّث النهر بعد أن يجتاز أراضيهم.
"تقسيم مياه نهر العاصي الذي يعبر المدينتين كان له حصّة في تأجيج الخصومة"، بهذه العبارات بدأ الباحث في التاريخ رأفت عودة (72 عاماً) حديثه مع الميادين نت، ووفقاً له، "برزت قوة الخلاف أيام حكم أسرة شيركوه الأيوبية في حمص".
ومن الطريف أنّ وفداً من وجهاء الحموية جاء إلى حمص، لبحث موضوع النزاع على حصة كل مدينة من مياه النهر - كما تابع عودة - وبعد مباحثات مضنية بين المدينتين، اتفق الجانبان على حل طريف، يقضي بوضع حبل في وسط العاصي، لتقسيم مياهه مناصفةً بينهما.
وبموجب ذلك يكون الجانب الشرقي من الحبل للحماصنة والغربي للحموية، ولاحقاً مضى كلّ في سبيله، "لكن الحماصنة تذاكوا وفكّروا بسرقة المياه من حصة الحموية في غيابهم، فكانوا خلال الليل يغرفون الماء من جهة الحموية إلى جهتهم، وهم يضحكون فرحين من غفلة الحموية عن حماية حصتهم من المياه"، بحسب ما قال عودة للميادين نت.
وأضاف: "تروى طرفة أخرى أنّ نزاعاً حدث بين المدينتين على مياه العاصي، وكبر الخلاف وتحوّل إلى حرب قضى فيها الكثير من الطرفين، فاجتمع حلماء حمص وتعاونوا، وقرّروا قطع شجرة التوت المعمّرة وسط المدينة، وأفرغوا الجذع من لبّه، وحوّلوه إلى مدفع ضخم، وعبّأوه بالبارود".
وتجمّع أهالي المدينة خارجها ليجرّبوا المدفع الخطير، ونصبوه باتجاه حماه، ثم وضعوا الفتيل فيه وأشعلوه، فانفجر بينهم وقتل معظمهم، فكبّر من بقي حياً، وقال: هذا ما فعله المدفع هنا، فتصوّروا ما الذي فعله في حماه؛ أكيد لم يبقَ منهم أحدٌ حياً!
معارضة شعراء المدينيتن الطريف
عُرف عن الحماصنة منذ القدم استخدامهم أساليب النكات اللطيفة للتخلّص من قسوة الحكّام وإبعاد الجيوش الطامعة عن حمص، وقد انعكس ذلك على علاقة الجيرة الاجتماعية مع أهل حماه، وظهر في أشعار قديمة كثيرة، لا تزال تتردّد إلى يومنا هذا، حيث تُعقد جلسات السمر التي يتبارى فيها شعراء من المدينتين، كلّ معتّد بصفاته الخاصة.
صالح أسعد (66 عاماً) شاعر ومدرّس لغة عربية قال للميادين نت إنّ "الحمويين كانوا يرون أنفسهم سادة الفرسان في الحروب والطعان، بينما يرى الحماصنة أنفسهم أهل علو وفصاحة وحلم". وانعكس أثر هذه الاعتبارات في الفكاهة والنكات المشهورة بين أهل المدينتين، المتفاوتة بين قسوة ولين، لتكون النتيجة إرثاً شعرياً ونثرياً زاد فكاهةً وحيويةً لدى الطرفين.
وبحسب أسعد، ظهر ذلك في القرن التاسع عشر، من خلال شعر "المعارضة الزينية"، بين الشاعر الحموي محمد بن الشيخ محمد الهلالي، الذي ذاع صيته بفصاحته وحبه للنساء وغزله بهنّ، فكان شعره غزلياً رقيقاً، والشيخ مصطفى زين الدين الحمصي، وهو نديم أدباء حمص وشعرائها، الذي تسلّط على الهلالي وتتبع شعره وعارضه في كل بيت، مستخدماً البحر والقافية ذاتها، ولاحقاً انتشر ذلك بما يُعرف بشعر المعارضة الزينية، الذي نُسب للشيخ مصطفى الحمصي.
وفي حين كان الشاعر الهلالي الحموي ينادي بالحب والغزل، كان الشاعر الحمصي يرد بغزل تفوح منه رائحة الموائد العامرة باللحوم والقدور، وقد انتشرت هذه الأشعار بين مجالس المدينتين، ولخفّة دم الشاعر الحمصي وبداهة ردّه، كان السامعون يقعون مغشيّين من الضحك طالبين منه المزيد، متجاهلين جميل شعر الهلالي المتين، ما يثير غضبه وسخطه، ولكن من دون جدوى.
ومن بديع ما وصلنا قول الهلالي:
قلبي كووا عزاً حووا ... وعلى العرش من الحسن استووا
دارِ من تهوى ودع في كل دار ... مدّعٍ في الحب جهلاً غير دار
ليت شعري من لقلبي أمرضوا ... هم إلى الآن غضاب أم رضوا
فيخرح له الزيني قائلاً:
لحماً شووا خبزاً طووا بيضاً قلوا ... وعلى السمن القباوات استووا
مذ رآني شيخنا المغشي جارْ ... راح للمحشي وبالكوسى استجارْ
أيّها الأخوان للأكل انهضوا ... وذروا الجوع وعنه اعرضوا
وعندها اشتكى الشاعر الهلالي للمتصرف، مطالباً الشاعر الحمصي بالكفّ عن معارضته وابتذال شعره بين المجالس فدافع الحمصي عن نفسه، وقال: "مفردات اللغة وبحور الشعر وقوافيه ملك للجميع".
وحين طلبت المحكمة أدلّةً على دعواه، ارتجل الشيخ الهلالي قصيدةً جديدةً أمام المحكمة. وكعادته تبعه الشيخ مصطفى الحمصي بردّ معارض لقصيدته، فوقع الحضور تحت المقاعد مغشياً عليهم من الضحك، وبقي الشاعران حديث المجالس لقرن من الزمن.
يذكر أن الخلاف الطريف بين المدينتين مستمر إلى يومنا هذا، فمن هنا ترى منشوراً على وسائل التواصل الاجتماعي يحرّك آراء المدينتين الجارتين، وهناك في الأسواق تسمع سؤالاً عن أصل حلاوة الجبن هل هي حمصية أم حموية؟ وكلّ ينسبها لمدينته بثقة، إذ أصبحت هذه الجدليات موروثاً اجتماعياً وثقافياً أضفى على سكان هاتين المدينتين تحببّاً وفكاهة بين بعضهما البعض ذاع صيته بين المجتمع السوري عامة، ما أكسب سكان المدينتين شهرة وصلت الماضي بالحاضر.