بُناة أميركا وقادة التغيير.. كيف تحوّل ملفّ المهاجرين إلى محلّ نزاع تاريخي؟
شكل المهاجرون عنصراً فعّالاً وحاسماً في بناء الولايات المتحدة وإعادة تشكيل بنيتها الديمغرافية والاجتماعية والثقافية، وقيادة التغيرات الاقتصادية والسياسية، لا سيما في المراحل الأساسية الكبرى التي شهدتها البلاد.
تبرز مسألة المهاجرين في الولايات المتحدة كواحدة من أكثر القضايا الشائكة، والتي تتصاعد حدّة الجدال حولها، على وجه الخصوص، مع حلول أي انتخابات جديدة في البلاد، وتُظهر استطلاعات الرأي أن الأميركيين قلقون بشأن الفوضى على الحدود، وأنهم يصنفونها كواحدة من أكثر التهديدات إلحاحاً تواجهها البلاد.
وللمرة الأولى منذ عقود، يسود الرأي الغالب لدى الأميركيين بضرورة خفض مستوى الهجرة، ففي استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في حزيران/يونيو العام الجاري، عبّر 55% من الأميركيين عن رغبتهم في الحد من تدفق المهاجرين، بارتفاع بلغ 14 نقطة مقارنة باستطلاع آخر أُجري في الفترة نفسها من العام الماضي.
ولطالما تركزت المناقشات حول الهجرة في معظمها على موضوعات الاقتصاد والسلامة العامة والأصول القومية للمهاجرين، وفي أعقاب الـ11 من أيلول/سبتمبر، أصبحت المخاوف المتعلقة بالأمن القومي تحتلّ الصدارة في هذا المضمار، ولذلك أدرجت الحكومة عام 2002 المهام المتعلقة بالهجرة في إطار عمل وزارة الأمن الداخلي.
محور للجدالات السياسية
حوّل النزاع الحزبي الهجرة إلى قضية سياسية، ومحور أساسي للجدالات بين الخصوم السياسيين، وتسبب ذلك في عرقلة إجراء إصلاحات تشريعية، وبات التغيير في هذا المضمار مرهوناً بالسّلطة التنفيذية، وأصبحت سياسات الهجرة في وضع متأرجح وفقاً لتوجّه الحزب الحاكم وسياساته التنفيذية.
ويعتبر المرشح الرئاسي الجمهوري، والرئيس الأميركي السابق رونالد ترامب، من أشد المناوئين للهجرة بكافة أشكالها، حيث جعل الخطاب المناهض للهجرة محوراً رئيسياً لحملته الانتخابية.
وأثناء ولايته أجرت إدارته نحو 472 تغيياً إدارياً، أدّت إلى تغييرات حاسمة في نظام الهجرة، إذ تمّ تقليص الحماية الإنسانية بشكل كبير، وأصبحت الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك أكثر إغلاقاً، وحُظر دخول مواطني بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة، وشُدد الخناق على الهجرة القانونية، إلى جانب تضييقات أخرى.
ووفقاً لاستطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث في نيسان/أبريل الماضي، فإنّ أغلب مؤيّدي ترامب من الناخبين، بنسبة تبلغ 63% يُرحّبون بالجهود الداعمة لترحيل المهاجرين غير القانونيين من البلاد، وذلك بخلاف أنصار الحزب الديمقراطي، فإنّ عدداً ضئيلاً يُشجّع الترحيل، بنسبة لا تتجاوز 11%، ويدعم الآخرون البحث عن حلول أخرى.
ويميل الديمقراطيون إلى منحنى أكثر انفتاحاً بشوط كبير في التعامل مع قضايا المهاجرين، منه عند خصومهم الجمهوريين، وتتضمن جهودهم السعي نحو سن قوانين واتباع سياسات أكثر ترحيباً بالمهاجرين، بما في ذلك دعم نظام الحماية القانونية المؤقتة، وتقليل القيود الحدودية.
ونظراً لأهمية ملف المهاجرين في المواجهات الانتخابية، فقد باشر الجمهوريون هجومهم على نائبة الرئيس الأميركي، والمرشحة الديمقراطية المحتملة، كامالا هاريس، من هذا الباب، فقد دعموا خلال الأسبوع الماضي قرار مجلس النواب القاضي بإدانة هاريس، لدورها في تعامل إدارة بايدن مع الهجرة، وذلك بهدف إظهارها بصورة المتساهلة بشكل خطير في تحقيق الأمن على الحدود الجنوبية.
بُناة أميركا وقادة التغيير
يقيم في الولايات المتحدة أكثر من 46 مليون مهاجر اعتباراً من عام 2022، بحسب الإحصائيات المحلية، وهو ما يعادل حوالى 13.9% من إجمالي سكان الولايات المتحدة. وفي الآونة الأخيرة، شهد عدد المهاجرين نمواً متزايداً، حيث ارتفع أكثر من الضعف عما كان عليه الحال عام 1990.
وتتصدر البلاد قائمة دول العالم في توافد المهاجرين، ففي حين يمثل سكان الولايات المتحدة حوالى 5% من إجمالي سكان العالم، فإنها تعد موطناً لما يقرب من 20% من مهاجري العالم قاطبة.
وقد شكل المهاجرون عنصراً فعّالاً وحاسماً في بناء الولايات المتحدة وإعادة تشكيل بنيتها الديمغرافية والاجتماعية والثقافية، وقيادة التغيرات الاقتصادية والسياسية، لا سيما في المراحل الأساسية الكبرى التي شهدتها البلاد، من مرحلة التكوين وتأسيس المستعمرات البريطانية، إلى التحول إلى اقتصاد زراعي في القرن التاسع عشر، ثم ظهور المدن والتصنيع في مطلع القرن العشرين، انتهاء بالهيمنة الاقتصادية القائمة على الخدمات والتطور المعرفي.
وقد اعتمدت الولايات المتحدة على مدى تاريخها الطويل على الطاقات الوافدة، واستفادت من الإبداع الذي جلبه المهاجرون، واستعانت بهم في تلبية حاجتها من سوق العمل. ويشكل المهاجرون وفقاً لمؤشرات مركز "بيو" للأبحاث لعام 2022، 18% من مجموع القوى العاملة المدنية في البلاد، بواقع تعداد يصل إلى 30 مليون شخص، يعمل حوالى 37% منهم في المهن الإدارية والمهنية.
ويشكل المهاجرون، وفقاً لبيانات مجلس الهجرة الأميركي، نسبة وافرة من القوى العاملة في مجال الصناعات، ويُمثّلون أكثر من ثلثي جميع العاملين في الزراعة وصيد الأسماك والغابات، وربع العاملين في علوم الكمبيوتر والرياضيات، ويعمل أكثر من 4 ملايين مهاجر في مجال الرعاية الصحية والمساعدة الاجتماعية.
ويُساهم المهاجرون في رفع الناتج المحلي، فهم يرفدون الضرائب بمليارات الدولارات، وكمستهلكين يزودون الاقتصاد الأميركي بأكثر من تريليون دولار، ويُنتج رواد الأعمال المهاجرون للبلاد عشرات المليارات من الدولارات سنوياً.
ويعتبر المهاجرون ركيزة أساسية في زيادة النمو السكاني، الذي يتباطأ مع مرور الزمن، بسبب انخفاض نسبة النمو الطبيعي عن طريق المواليد، وخصوصا خلال السنوات الأخيرة، فعلى سبيل المثال، شكل النمو في عدد المهاجرين في الولايات المتحدة بين عامي 2021 و2022 حوالى 65% من إجمالي الزيادة السكانية في الولايات المتحدة.
سمة دائمة للمجتمع
يُعتبر المهاجرون سمة دائمة في المجتمع الأميركي، فقد بدأت موجات الهجرة إلى الولايات المتحدة منذ عهد ما قبل التأسيس، واستمرت على مدى القرون، غير أنّها شهدت العديد من التقلبات في طبيعتها الديموغرافية ودوافعها، حيث تبدلت باستمرار أصول المهاجرين ومبعث الهجرة ودواعيها.
وكان العنصر الأوروبي هو السائد بين المهاجرين إلى الولايات المتحدة قبل عام 1880، مدفوعاً بإلحاح الظروف الاقتصادية ومسائل الاضطهاد الديني والسياسي في الغالب. وطوال القرن الثامن عشر، كانت أعداد الوافدين من العبيد من أفريقيا ومنطقة الكاريبي مرتفعة، غير أنها تراجعت بشكل كبير بحلول القرن التاسع عشر، وانتهت في حدود عام 1861.
وبحلول منتصف القرن التاسع عشر كان عدد المهاجرين المقيمين في الولايات المتحدة يبلغ ما نسبته 10% من مجموع السكان، بواقع تعداد يصل إلى 2.2 مليون نسمة. وفي هذا الوقت، بدأت موجة كبيرة من المهاجرين الصينيين يتوافدون إلى الولايات المتحدة، وذلك على إثر اكتشاف الذهب في كاليفورنيا، وفيما بعد، بدأت البلاد تفرض قيوداً صارمة على المهاجرين الصينيين وتقوم بترحيلهم.
وفي العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، بدأت موجة أخرى من الهجرات، استمرت حتى العام 1930، حملت إلى البلاد 27 مليون مهاجر، معظمهم من أوروبا وكندا. تلا ذلك انحسار مطرد في معدل الهجرة، حتى بلغ أدنى مستوى له عند 9.6 مليون في عام 1970، بما يوازي نحو 4.7% من إجمالي عدد السكان، ثم عاد تدفق المهاجرين للارتفاع من جديد، بسبب زيادة الهجرة من أميركا اللاتينية وآسيا.
ويمثل مهاجرو المكسيك حالياً أكبر مجموعة مهاجرة في الولايات المتحدة، وفقاً للإحصائيات المحلية للعام 2022، حيث يبلغ تعدادهم حوالى 10.9 ملايين نسمة، بنسبة تصل إلى 23% من مجموع المهاجرين الكلي في البلاد.
واحتلّت الهند ثاني أكبر الدول المساهمة في توريد المهاجرين، بواقع يقارب 2.8 مليون مهاجر، أي ما يعادل 6% من جميع المهاجرين. وتأتي الهند والفلبين والسلفادور وفيتنام وكوبا وجمهورية الدومينيكان وغواتيمالا وكوريا، في طليعة الدول المصدرة للمهاجرين كذلك، وتساهم جميعها بنحو 55% من إجمالي المهاجرين في البلاد.
الهجرة غير الشرعية
تركّزت أكثر المعارك الجدليّة الرسمية والشعبية حول الهجرة على مصير ما يُقدر بنحو 11 مليون مهاجر غير شرعي، والذي يُنظر إليه كأكبر تعداد من هذا النمط على الصعيد العالمي، وقد أدّى تنامي الهجرة غير الشرعية في البلاد إلى إثارة ردود فعل عنيفة، كانت المحرّك إلى إقرار الكونغرس قوانين صارمة في عام 1996، تهدف إلى ضبط الهجرة والقضاء على غير الشرعية منها.
ونظراً لكون الحدود الجنوبية هي المعبر الرئيسي للهجرة غير الشرعية، فقد أنشأت وزارة الأمن الداخلي نظاماً تكنولوجياً وما لا يقل عن 700 ميل من الحواجز على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، مع تفويض وكالات إنفاذ القانون المحلية للقيام باعتقال المهاجرين غير الشرعيين، فضلاً عن عمليات الترحيل، التي بلغت عام 2023 حوالى 143 ألف عملية إبعاد إلى أكثر من 180 دولة.
وقوبلت التضييقات الحكومية تلك بردّات فعل عنيفة من قبل المدافعين عن المهاجرين، ونجم عن ذلك، ظهور أنواع مختلفة من سياسات الملاذ التي تَحُدّ من تعاون الشرطة المحلية مع إدارة الهجرة والجمارك في مناطق مثل كاليفورنيا وشيكاغو ونيويورك.
ويتمتع عدد متزايد من المهاجرين غير الشرعيين بتصريح للعيش والعمل في الولايات المتحدة، ويتمتعون بالحماية المؤقتة، التي تعفي المستفيدين من الترحيل وتسمح لهم بالعمل بشكل قانوني في البلاد. وقد ساهمت إدارة بايدن عام 2021 في جعل مئات الآلاف من المهاجرين، مؤهّلين للحصول على وضع الحماية المؤقتة، وفي عام 2022، حصل حوالى 3 ملايين مهاجر غير شرعي على تلك الحماية.
قيود وضوابط
بدأت الحكومة الأميركية بوضع أطر مقيدة للهجرة مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فقد حظرت قوانين الهجرة في السبعينيات والثمانينيات، دخول المجرمين والأشخاص غير القادرين على رعاية أنفسهم، الذين صنفوا حمقى أو مجانين، وذلك تفادياً لتحوّلهم عبئاً ثقيلاً على الدولة، وفرضت قوانين أخرى رسوماً على الوافدين الجدد.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، سنّت الدولة سلسلة من قوانين الهجرة المقيدة عنصرياً، تستهدف الصينيين بشكل رئيسي، حيث فرضت قيوداً على هجرة الصينيين وتجنيسهم، وفي النصف الأول من القرن العشرين، تم فرض قيود جديدة، من بينها حظر الهجرة من منطقة واسعة تغطي معظم جنوب وجنوبي شرق آسيا والشرق الأوسط، فضلاً عن فرض نظام الحصص للأصول الوطنية، والذي وضع سقفاً لعدد المهاجرين المسموح بهم من كل دولة.
ومثل قانون "هارت سيلر" لعام 1965 قفزة نوعية في موضوع الهجرة والجنسية في الولايات المتحدة، فقد ألغى نظام الحصص على أساس الأصول القومية، واستبدلها بنظام يقوم على تفضيلات أخرى، معتبراً فيها نظام لمّ شمل الأسرة، كما فتح باب القبول الدائم للاجئين، وأتاح الهجرة من آسيا وأميركا اللاتينية، وهو الأمر الذي ساعد في تحوُّل المكسيك إلى أكبر دولة مصدرة للمهاجرين الشرعيين، ومصدراً لعدد متزايد من المهاجرين غير الشرعيين.
وساعد قانون الهجرة لعام 1990 في زيادة الهجرة القانونية، وسمح للمهاجرين من بلدان متعددة بدخول الولايات المتحدة بشكل قانوني، عن طريق إنشاء نظام تفضيلي للهجرة قائم على العمل، وتسهيل دخول المهاجرين ذوي الكفاءات العالية، كما أنشأ وضع الحماية المؤقتة لمواطني البلدان التي تعتبر غير آمنة.
ولقد ظلت المبادئ الأساسية لنظام الهجرة من دون تغيير جوهري منذ الإصلاحات التشريعية في تسعينيات القرن الماضي، وبمرور الزمن، تتبدى ثغرات النظام، وعدم قدرته على مواكبة التطورات الجارية على أرض الواقع. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، يبدو أن مسألة المهاجرين ستلعب دوراً بارزاً فيها، وهو الأمر الذي يتطلب موازنة دقيقة وتقديم حلول ترضي مزاج الناخب الأميركي وتشبع تطلعاته.