النقب وديار بئر السبع.. التركيبة الاجتماعية والسكان
رغم قيام الاحتلال الإسرائيلي بتهجير جزء كبير من أهالي ديار بئر السبع (النقب) عام 1948، لا تزال حتى اليوم هذه الأراضي منسوبة إلى أهلها بعضهم من نسل القبائل التي نشأت من شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وسيناء وشرق الأردن.
تشكل منطقة قضاء بئر السبع المتعارف عليها باسم النقب أكثر من نصف المساحة التاريخية لأرض فلسطين، أي ما مجموعه 12577000 دونم من الأرض، والواقع أن هذه المنطقة ليست صحراوية كما يتم تصويرها بالمعنى الحرفي، إنما هي مزيج ما بين المناطق الزراعية شديدة الخصوبة وأخرى جبلية جافة وأخرى رملية، وجميعها تخفي في باطنها مخزوناً هائلاً من المياه الجوفية حسب أبحاث أجراها مختصون عرب في هذا المجال، بالإضافة إلى ثروات هائلة من الأملاح والمعادن.
تلك المساحة الكبيرة سكنها وملكها البدو منذ مئات السنين، وملكوا فيها صكوك ملكية بكلمات قانونية واضحة منذ أيام الدولة العثمانية ومن بعدها صكوكاً انتدابية دقيقة أكدت ملكيتهم لها، وما تزال حتى اليوم هذه الأراضي بمساحاتها الشاسعة منسوبة لأهلها الحاضرين منهم والمهجرين، رغم قيام الإحتلال الإسرائيلي بتهجير جزء كبير منهم في نكبة العام 1948، ومن ثم عملت في خمسينيات القرن الماضي على ترحيل جزء كبير من الباقين إلى ما يسمى منطقة السياج (شمال شرق مدينة بئر السبع)، وسلب جزء كبير جداً من أراضيهم وتحويلها فيما بعد إلى منطقة عسكرية مغلقة (محرمة)، رغم وجود سكان فيها، وبهذا لم يعد لدى البدو ملكية سوى على 3% من مجمل أراضيهم، ومع ذلك تسعى سلطات الاحتلال الإسرائيلية اليوم لمصادرتها منهم وتهجيرهم قسراً وتركيزهم في جيتاوات سكنية تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة.
المجتمع البدوي: قبائل تعيش على تربية الماشية والزراعة
مجتمع النقب وقضاء بئر السبع في العقود الماضية قبل رسم سايكس بيكو الكولونيالية كانوا ينتقلون بماشيتهم حسب المواسم السنوية والزراعية من منطقة إلى أخرى كل داخل حدود أرضه المتعارف عليها، حيث أن القبائل البدوية كانت ولا تزال حتى اليوم تحترم ملكية بعضها البعض للأرض، والتي هي بالنسبة لهم من أقدس المقدسات كالعرض تماماً، لاحقاً كانت أعداد كبيرة، منهم قرويين، يعيشون على تربية الماشية والزراعة. بعد النكبة وسياسات الاستيطان القسري منذ عام 1960، قطن جزء منهن في قراهم التاريخية التي أطلقت عليها سلطات الاحتلال الإسرائيلية "قرى غير معترف بها"، بينما تم تهجير الجزء الآخر، وتركيزهم في البلدات الثابتة قسراً، حيث اتجهوا لنمط حياة أكثر راحة إلى حد ما، أقرب إلى نمط المدن والبلدات، وعلى الرغم من ذلك داخل هذه البلدات من يستمر حتى الآن بتربية المواشي والزراعة بظروف مقيدة جداً.
المجتمع النقباوي الفلسطيني مجتمع محافظ، والقبائل البدوية في النقب يعود بعض أنسابها إلى القبائل البدوية العربية التي نشأت من شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وسيناء وشرق الأردن.
وفي النقب تعد العشيرة وحدة اجتماعية محددة، أما القبيلة فهي اتحادات العشائر التي وجدت في فلسطين قبل عام 1948، والتي ظل جزء قليل منها بعد النكبة، وفي النقب تنقسم العشائر إلى ربع، والربع إلى حمائل، وتنقسم كل حمولة إلى عائلات أو أسر صغيرة.
يقول الباحث في التاريخ السياسي والاجتماعي لجنوب فلسطين والقدس وغزة د.منصور النصاصرة في كتابه "بدو النقب وبئر السبع: 100 عام من السياسة والنضال": "من بين 95 عشيرة كانت موجودة في جنوب فلسطين خلال مرحلة الانتداب البريطاني، بقيت 19 عشيرة فقط في منطقة النقب وبئر السبع بعد النكبة، جمعوا قسرياً بعد 1948 مباشرة في المنطقة المغلقة (السياج) شمال شرق مدينة بئر السبع حتى العام 1967. ويجدر التنويه هنا إلى أن عدد العشائر التسع عشرة هو إشارة إلى المفهوم الإسرائيلي لأجزاء العشائر التي اعترف بها لتبقى بعد النكبة – رغم وجود عدد أكبر كثيراً من العشائر – لكن المحاولة كانت ضم كل من تبقى تحت إطار التسع عشرة عشيرة من أجل السيطرة عليها بعد عام 1948، إذ إنه يشير إلى عدد مشايخ العشائر الذين اعترفت بهم حكومة ابن غوريون".
ويوضح الباحث النصاصرة "أن السياسات التي طبقت على بدو النقب في أوائل خمسينيات القرن الماضي بعد أن تركزوا في منطقة السياج، شملت فصل العشائر بعضها عن بعض، مع الإبقاء على العشائر المسالمة، وطرد العشائر التي بقيت في النقب الغربي والشمالي إلى منطقة السياج، ومحاولة تعيين مشايخ جدد للعشائر، ومصادرة أراضيهم بسن قوانين الأراضي والاستيلاء على أملاكهم التاريخية، وتكرار إجراء التعداد السكاني من مدة إلى أخرى لإخضاعهم دائماً للمراقبة الصارمة".
الاحتلال يُجرّم تعدد الزوجات بين فلسطينيي النقب من أجل منع تكاثرهم!
رغم كل القيود المفروضة وصعوبة الحياة بوجود الحواجز وانعدام منح المواطنة أو التصاريح الخاصة بالإقامة، فإن أهالي قضاء بئر السبع تربطهم علاقات نسب عديدة مع سكان الأراضي المحتلة عام 1967 في جنوب الضفة الغربية وقطاع غزة وأيضاً مع الأردن، وبطبيعة الحال فإن حياة البدوي تعتمد تاريخياً على العائلات المباركة بالأطفال، ولمحاولة السيطرة على التكاثر السكاني الطبيعي للبدو بشكل عام داخل الأراضي المحتلة عام 1948، سنت حكومة الاحتلال الإسرائيلية قانوناً يُجرّم تعدد الزوجات.
بينما الزوجات من الأراضي المحتلة عام 1967 فلا يمنحن حق الإقامة أو لم الشمل حسب القوانين الإسرائيلية الحديثة، بحجة أنهن أنجبن شباناً قاموا بتنفيذ عمليات "هددت أمن إسرائيل أو قمن بذلك بأنفسهن"، وفق الاحتلال.
يحترم أهل النقب كل منهم ملكية الآخر في الأرض، حتى وإن لم تكن مسجلة على الورق، وذلك كونهم يحتكمون حتى اللحظة للأحكام والأعراف البدوية الملزمة في هذه الأمور، والتي تعتبر الأرض كما العرض لا يمكن الاعتداء عليها أو التفريط بها، إلا أن هذه الأعراف ليست مدرجة في قواعد دولة الاحتلال، لا سيما في هذه الفترة من الزمن، فلقد كانت هذه المنطقة مُهمّشة جداً بالنسبة لهم، إلى أن لفت دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي النظر إليها، بل واتخذ منها مقراً لسكناه وبدء إقامة حلمه، وذلك انطلاقاً من رؤية بن غوريون للنقب تحديداً المتمثلة بمقولته "إننا نريد في النقب حماية الصحراء، حماية الخلاء".
أخيراً، وجب التنويه إلى أن الإحصائيات البحثية تقر بأن تعداد أهل النقب يصل إلى حوالي 380 ألف نسمة تقريباً، نصفهم في قرى التركيز الثابتة، والنصف الآخر يحافظن على صمودهم في قراهم التي لا تعترف بها سلطات الاحتلال الإسرائيلية في ظروف معيشية أقل ما يقال فيها أنها لا تناسب الحياة البشرية ونمطها المتحضر في الألفية الثالثة، حيث لا بنى تحتية ولا ماء أو كهرباء ولا مدارس أو عيادات، وبيوت جلّها من الصفيح لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء الصحراوي القارس.