المكان الخلوة والشاهد... أن تجلس في مقاهي قاهرة المعز الشعبية
ربما تكون المقاهي الشعبية خلوة الانطوائيين، يجدون فيها سلواهم المفقودة وسط حداثة القاهرة وضجيجها المعتاد.وأيضاً تعدّ أمكنة لتلتقي كافة الطبقات الاجتماعية المصرية التي يحبذ بعضها التراث الشعبي وآخرين يقصدونها بسبب أسعارها الزهيدة.
تنبعث روائح "المبخراتي"، يسير بالبخور يحمّيه فوق جمر صغير، يطوف داخل المقهى في شارع المعز، حاملاً مبخرته، يبارك الزبائن في المقهى المزدحم الذي يكتظ بالناس، يأخذ جنيهات قليلة من صاحب المقهى ثم يذهب.
أصوات أغنيات أم كلثوم، ومحمد فوزي، وعبد الحليم حافظ، ومحمد عبد الوهاب، تصدح من جهاز راديو قديم داخل معظم هذه المقاهي. الجلوس فيها وتناول كوب من الشاي بالنعناع أو القهوة المحوجة تجربة بحد ذاتها، فتلك المقاهي تحمل دلالات على تاريخ حديث وكثيراً من القصص والحكايات.
المقهى مكان للإبداع والراحة
محمد زكريا أحد الشباب الذين التقيناهم ليحدثونا عن سر حبهم للمقاهي الشعبية، فقال للميادين نت: "لا يوجد أجمل من الجلوس في المقهى، فهي ليست مجرد كراسٍ وطاولات وزحام وناس، بل هي حياة، في أوقات كثيرة، أرتدي ملابسي وأنزل من بيتي من دون هدف سوى الجلوس في المقهى، في مناطق المطرية ووسط البلد وروكسي والكوربة".
يعتقد محمد أن المقهى هو أكثر مكان يرتاح فيه، حيث يمكنه الجلوس لساعات بمفرده، ويكون سعيداً ولا يشعر بالملل. المقهى يعني بالنسبة إليه السياسة والكرة ولقاء الأصدقاء والمشروبات التي تعدّ حالة في حد ذاتها، وأحلى مقال يمكنه قراءته هو في المقهى، وأجمل ما يمكن أن يكتبه يكون في المقهى.
يحظى محمد باحترام أصحاب المقهى ومعاملة فاخرة تخرج بحب. ويعتقد أن المقهى الشعبي لا يزال يحتفظ بقيمته، رغم التطور ووجود الكافيهات لكون أسعاره زهيدة مقارنة مع الكافيهات، في ظل الحالة الاقتصادية لشعب يصنف حوالى ثلثه تحت خط الفقر.
ربما تكون المقاهي الشعبية خلوة الانطوائيين، يجدون فيها سلواهم المفقودة وسط حداثة القاهرة وضجيجها المعتاد. أحمد شهاب أحد الشباب الذين رووا لـلميادين نت ما يمكن أن تمثله المقاهي بالنسبة إليهم قائلاً: "حكايتي مع المقاهي معقدة، فأنا شخص شديد الانطوائية، أو كنت كذلك، ربما بحكم العمر، يجرب الإنسان في كل مرحلة حالة نقيضة للمرحلة السابقة، إذ بتّ مؤخراً مولعاً بالجلوس في المقاهي، خاصة في الأوقات التي تحمل مساحات هادئة، وفي أوقات مثل ما بين الفجر إلى شروق الشمس".
يعدّ المقهى المكان الأول الذي يؤويه حينما تلفظه كل الأمكنة العامة والمفتوحة، ففي بدايات عمله، كان يجلس لساعات طوال الليل مع صديقته، كما أنه أصبح مكاناً يقرأ فيه بانتظار أصدقائه.
لدى أحمد خبرة لا بأس بها في المقاهي، ليس في مصر وحدها، بل في لبنان أيضاً، يقول: "جلست في المقاهي في بيروت وفي القاهرة، لكن حالة الثراء البصري والسمعي في الجلوس في المقهى هي حالة مصرية بامتياز، إضافة إلى أنه توجد مقاهٍ مفتوحة لأربع وعشرين ساعة في القاهرة".
مقهى الحرافيش وشلة نجيب محفوظ
على أطراف ميدان الجيزة، بقليل، وتحديداً في أول شارع الملك فيصل، يقع "مقهى الحرافيش"، أحد أقدم مقاهي القاهرة الشعبية، وقد سمّاه صاحبه، فخري يوسف، بذاك تيمناً باسم "شلة الحرافيش".
في كل ركن داخل المقهى، ستجد صوراً لمشاهير الزمن الجميل ونجومه، هناك ركن خاص لأم كلثوم يضم صورها وبوسترات لأهم مقاطع أغنياتها، وثمة ركن مميز يحمل اسم إحدى روايات نجيب محفوظ "شلة الحرافيش"، وهي شلة تكونت من كبار الأدباء منهم: محفوظ وجمال الغيطاني وصلاح جاهين.
عند دخولك من الباب الرئيسي، ستجد تمثالاً مجسماً صغيراً لنجيب محفوظ باللون الذهبي، قام بنحته صاحب المقهى.
ويتضمن المقهى أيضاً ركن يشهد على فترة من فترات الزمن الجميل مع ديكور يعود بك إلى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
وبخلاف ركن نجيب محفوظ، هناك ركن ليوسف إدريس وآخر لخيري شلبي وركن للكاتب محمود السعدني.
وقال العم محمد، الذي يعدّ أقدم العاملين في المكان، إنه يعمل في هذا المقهى منذ حوالى 30 عاماً، أي منذ إنشائه عام 1992، وشاهد العشرات من النجوم يدلفون ويخرجون من المكان منهم: فاروق الفيشاوي وفاروق فلوكس والنجم ماهر عصام وعادل إمام، وعدد من لاعبي كرة القدم مثل، عبد الظاهر السقا وغيرهم كثيرين.
مقهى الفيشاوي شاهد على العصر
في حارات منطقة الأزهر، بجوار مسجد الحسين، الأجواء روحانية، والمشغولات اليدوية التراثية تحيط بك من كل مكان، والمقاهي التراثية ومنها "مقهى التلمساني" تعود إلى القرن التاسع عشر. ويعدّ "مقهى التلمساني" ثاني أقدم مقهى في منطقة الحسين والأزهر، بحسب أحد العاملين في المقهى، ويتميز بديكوره الشعبي الذي ربما لم يتغير منذ تاريخ نشأته، باستثناء بعض الكراسي الحديثة العهد وتزين حوائطها تابلوهات تاريخية.
وفي جولة في منطقة الحسين وشارع المعز ، تجد مقهى "الفيشاوي"، أقدم مقاهي القاهرة، تم افتتاحه عام 1797، ولا يزال المقهيان (التلمساني والفيشاوي) يشهدان إقبالاً من مختلف الطبقات والمصريين والأجانب.
مقهى الفيشاوي لا يزال يشهد حركة، رغم مرور أكثر من 200 عام على افتتاحه، وترجع شهرته إلى كونه أحد المقاهي المفضلة لروائي نوبل، نجيب محفوظ، إذ كان قريباً من بيته الأول في حي الجمالية، ويقال إنه كتب أغلب مسودات رواياته في هذا المقهى، متأثراً بالقصص التي كان يسمعها هناك.
ولرد الجميل، فقد خصص أصحاب المقهى ركناً لنجيب محفوظ مزيناً بصوره وبعض مؤلفاته، وبعض المقتنيات.
من أشهر رواد المقهى: جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، والرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش.
الأجواء داخل مقاهي القاهرة قادرة على أن تنقل إليك حالة مختلفة، سواء بصرية من الديكور الذي يعود إلى عشرات الأعوام، أو حالة اجتماعية وتعامل العاملين في هذه المقاهي، أو القصص والراحة التي يشعر بها الرواد، ولا يختلف اثنان أن المقاهي حالة متفردة تستحق التجربة.