المدن الذكية والعدالة الاجتماعية: نموذجا برشلونة وسان فرانسيسكو
تُظهر التجربتان في برشلونة وسان فرانسيسكو أن المدن الذكية ليست مجرد مفهوم تقني، بل هي أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية إذا تم تطبيقها بعناية.
لم يعد تعبير أن "العالم يركض" متناسباً مع سرعة حركة التطور السريع للتكنولوجيا وللنشاط الإنساني بصورةٍ عامة، وما يحمله في طياته من تزايد التحديات الاجتماعية والبيئية.
وفي خضم هذه التحديات، تبرز تجربة المدن الذكية للتحول إلى نموذجٍ عالميٍ لتطوير البنية التحتية وتحسين جودة الحياة. تتبنى هذه المدن التكنولوجيا لتحقيق أهداف الاستدامة والابتكار، مع تعزيز العدالة الاجتماعية لضمان توزيع الموارد والخدمات بشكل عادل.
نموذجان مختلفان، لكنهما متقدمان ورائدان في هذا المضمار، إذ تبنت كل من برشلونة وسان فرانسيسكو استراتيجيات مختلفة لكن ناجحة لمعالجة مسألة العدالة الاجتماعية، وهي مسألة شائكة في النظم قديمها ومحدثها.
برشلونة: التكنولوجيا لتعزيز الشمولية
أسست مدينة برشلونة الإسبانية نظامًا ذكيًا لإدارة حركة المرور يعتمد على أجهزة استشعار، مما أسهم في تحسين تدفق المركبات وخفض الانبعاثات الكربونية. وعززته بتضمينه آلياتٍ لتحديد الأماكن الفارغة لوقوف السيارات، الأمر الذي أدى إلى زيادة العائدات المالية بنحو 50 مليون دولار سنويًا. وهو نظام يقلل -إلى جانب توفير وقت السائقين- من الازدحام في المناطق المكتظة. وعلى مستوى إدارة الموارد، استخدمت المدينة أنظمة رَي ذكية تعتمد على مراقبة بيانات الطقس ومستويات الرطوبة، مما أسهم في توفير حوالى 58 مليون دولار سنويًا من استهلاك المياه.
لكن ذلك لم يكن ليحقق النتيجة المثلى ما لم يكن مقروناً بمشاركةٍ مجتمعية، وهو ما تنبهت له برشلونة حين أطلقت منصة Decidim Barcelona، وهي أداة رقمية تتيح للمواطنين المشاركة في القرارات المتعلقة بالمدينة الذكية. دمجت هذه المبادرة المواطنين في آليات صنع القرار التنموي داخل المدينة، وعززت لديهم الشعور بالانتماء، وبشفافية الإدارة المدنية لهذه المدينة.
لكن الآثار لا تتوقف هنا، بل إن هذه المنظومة الذكية من الحكم، أدت إلى تعزيز الاقتصاد الرقمي من خلال رفد مشروعات الابتكار، ما وفر حوالى 47,000 وظيفة جديدة، حدّت بدورها من الفجوات الاجتماعية.
وفي مضمار التخطيط الحضري، قدم مشروع Superblocks الشهير في مدينة برشلونة نموذجًا متميزًا لتحويل بعض المناطق الحضرية إلى مساحات خضراء ومناطق مخصصة للمشاة. وقد عززت هذه الخطوة جودة الحياة للسكان، خاصة في المناطق المكتظة التي تعاني من تلوث الهواء وضجيج السيارات. فكيف كان نموذج سان فرانسيسكو الأميركية، وبمَ يختلف عن برشلونة؟
سان فرانسيسكو: الإسكان والمساواة
صبّت مدينة سان فرانسيسكو جهودها على الاستفادة من خصائص المدن الذكية لمعالجة مشكلاتها الخاصة. وهي بالأساس تتركز في مواجهة أزمة إسكان كبرى. من هنا ركزت مساهمتها الذكية على بناء أكثر من عشرة آلاف وحدة سكنية بأسعار ميسرة. واستهدفت هذه المبادرة العائلات ذات الدخل المحدود، مما قلّص خطر التهجير الذي يعاني منه العديد من السكان بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة.
وعلى مستوى النقل العام، وكما برشلونة، استثمرت المدينة بشكل كبير في تطوير هذا القطاع، مما أدى إلى زيادة عدد الركاب بنسبة 50%. وهو الاستثمار الذي ساهم في تقليص الاعتماد على السيارات الخاصة وخفض التلوث، بالإضافة إلى توفير وسيلة نقل فعّالة لذوي الدخل المحدود، وهو ركنٌ أساس في مساعي تحقيق العدالة الاجتماعية.
المدينة الأميركية اهتمت أيضاً في نموذجها للمدينة الذكية بإنشاء مساحات عامة شاملة تتيح التفاعل الاجتماعي بين جميع فئات المجتمع، مما يعزز من شعور السكان بالمساواة والاندماج الاجتماعي.
وبما أن التشرد يعتبر من الملامح العامة للمدن الأميركية المكتظة، والكثير من المدن الأخرى الكبرى حول العالم، فقد أطلقت المدينة مبادرات ذكية للتعامل مع الأزمة، بما في ذلك توفير أماكن إيواء مدعومة بالتكنولوجيا لتقديم الخدمات الأساسية للمشردين. استخدمت هذه الأماكن أنظمة ذكية لمراقبة الموارد وضمان توزيعها بشكل عادل.
بين المدينتين
اختلفت الأولويات بين المدينتين، وهو الميل الطبيعي الذي يجعل من السياسة الذكية متناسبةً مع الضرورات المحلية، وليست نموذجاً موحداً جاهزاً للتطبيق في أي مكان بالطرق نفسها. ففي حين ركزت برشلونة على تعزيز البنية التحتية الذكية وتحسين جودة الحياة عبر التكنولوجيا والابتكار، كانت سان فرانسيسكو معنيةً بصورةٍ أكبر بالعمل من خلال التكنولوجيا الذكية على القضايا الاجتماعية المباشرة مثل الإسكان الميسر والنقل العام.
وعلى المستوى الاقتصادي، قدمت برشلونة نموذجًا مستدامًا لخلق فرص عمل جديدة وتعزيز الاقتصاد الرقمي. في المقابل، ركزت سان فرانسيسكو على تقليل تكاليف المعيشة وتقديم دعم مباشر لذوي الدخل المحدود.
أما في زاوية الشمولية الاجتماعية للسياسات، فقد حققت برشلونة تقدمًا كبيرًا في إشراك المواطنين في اتخاذ القرارات، بينما كانت جهود سان فرانسيسكو موجهة بشكل أكبر نحو تحسين الظروف المعيشية للفئات الهشة. وأظهرت المدينة الإسبانية قدرةً ريادية في تحسين كفاءة استخدام الموارد وتقليل التلوث عبر مبادرات مثل النقل الذكي والمشروعات المتخصصة. ومن ناحيتها جهدت المدينة الأميركية في محاولة تحسين النقل العالم بالدرجة الأولى في أولوياتها، وحاولت الحد من الانبعاثات الكربونية لمعالجة الأثر البيئي الذي يترك انعكاساتٍ خطرة في كليته، ويؤدي في دقائقه إلى خفض مستوى حياة السكان وزيادة فاتورتهم الصحية.
أثر المدن الذكية على العدالة الاجتماعية
تُظهر التجربتان في برشلونة وسان فرانسيسكو كيف يمكن للمدن الذكية أن تُحدث فرقًا كبيرًا في تعزيز العدالة الاجتماعية. فالتكنولوجيا تمثل حلاً للعديد من التحديات، مما يُظهر كيف يمكن للابتكار أن يخلق فرصًا جديدة ويحسن توزيع الموارد. كما أن تركيز المبادرات على معالجة الاحتياجات الملحة للفئات الضعيفة يظهر نهجاً آخر إنسانياً وجانباً مختلفاً من جوانب السياسات الاجتماعية التي تحاول مواجهة التحديات المتعاظمة.
وهاتان الناحيتان، يبرزان معاً الحاجة إلى التوازن بين التكنولوجيا والاحتياجات الاجتماعية، كأن تجمع المدن بين الابتكار التكنولوجي والاستجابة للاحتياجات الاجتماعية الملحة، إشراك المواطنين، وتعزيز مشاركة المجتمع في تصميم وتنفيذ المشاريع لضمان شمولية أكبر. كما تبرز من خلال هاتين التجربتين أهمية التخطيط طويل الأمد الذي يركز على الاستدامة لضمان تحقيق نتائج مستدامة تؤثر إيجابيًا على الأجيال المقبلة.
تُظهر التجربتان في برشلونة وسان فرانسيسكو أن المدن الذكية ليست مجرد مفهوم تقني، بل هي أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية إذا تم تطبيقها بعناية. وتقدم كلتا المدينتين نماذج ملهمة للتعامل مع التحديات الحضرية، حيث أظهرت برشلونة كيف يمكن للتكنولوجيا أن تسهم في تحسين جودة الحياة، بينما ركزت سان فرانسيسكو على معالجة القضايا الاجتماعية الأكثر إلحاحًا. يمكن للمدن الأخرى الاستفادة من هذه التجارب لتطوير سياسات تلبي احتياجات سكانها بطرق مستدامة وشاملة.