"المتاريس"... دروع المقاومة السلمية في السودان

تُعَدّ المتاريس بمنزلة دروع لحركة المقاومة السلمية في السودان، إذ يقوم المتظاهرون برصفها بخطط وتكتيكات معينة لإعاقة حركة المركبات العسكرية عن ملاحقة المواكب الاحتجاجية.

  • "المتاريس"... دروع المقاومة السلمية في السودان

"المجد للمتاريس"... هتافٌ لا يفارق أفواه المتظاهرين السودانيين في كل موكب احتجاجيّ يخرجون فيه للمطالبة بالحُكم المدني الديمقراطي، وذلك تعظيماً لحجارة وأنقاض ينصبونها في الطرقات والأزقة كحواجز لمنع وصول القوات الأمنية إلى الحشود الجماهيرية، بعد أن درجت على تتبُّعهم في كل مكان، من أجل كبح حراكهم السلمي.

ولم تتوقف عمليات المديح لتلك الحواحز وحدها، بل امتدّت إلى الشبّان والشابات من منتسبي الحراك الثوري، الذين يغامرون بحيواتهم ويحرسون "المتاريس" من أجل منع قوات الأمن من اختراقها، حتى ينجو سائر المتظاهرين، في مشاهد بطولية، سقط في إثرها مئات القتلى على مر التاريخ، وهم مَن يسمونهم محلياً "شهداء المتاريس"، الأمر الذي حدا إلى تخليد ذكراهم على جداران العاصمة الخرطوم ومدن سودانية أخرى، بالنقش التشكيلي، وفاءً لتضحياتهم.

يُعَدّ الشاب عباس فرح من أشهر ضحايا المتاريس في السودان، بحيث صمد في وجه رتل من السيارات العسكرية في أثناء محاولتها فض الاعتصام السلمي أمام قيادة الجيش في الخرطوم قبل ثلاثة أعوام، حتى أُصيب بالرصاص في أجزاء متفرقة من جسده، وبات يسبح في شلال من الدماء، لكنه ظل منكفئاً فوق "ترسه" حتى سلّم روحه إلى بارئها. مشهد ما زال عالقاً في ذاكرة أهل هذا البلد، قبل شاشات التلفزة التي تناقلته على نطاق واسع يومها.

شرف باذخ

  • عبد الله: ظلت المتاريس وستظل سلاحنا الوحيد لمواجهة العنف الذي نتعرّض له من جانب القوات العسكرية
    عبد الله: ظلت المتاريس وستظل سلاحنا الوحيد لمواجهة العنف الذي نتعرّض له من جانب القوات العسكرية

يقول إدريس عبد الله، وهو أحد شبّان الثورة في السودان، إن الجميع يتسابق إلى إقامة المتاريس وحراستها، حتى الفتيات "الكنداكات"، بسبب ما فيها من شرف نضالي باذج، فضلاً عن روح الإيثار التي يتحلى بها المتظاهرون. فكل منهم يريد أن يتقدم الصفوف، ويضحي بنفسه حتى لا يتعرض أصدقاؤه لخطر الموت أو الجرح برصاص القوات الأمنية، التي ظلت تواجه الاحتجاجات السلمية بعنف مفرط.

ويرى عبد الله، خلال حديثه إلى الميادين نت، أن قوة الإرادة لدى الشبان والشابات الثائرين، وشعور كل واحد منهم بالمسؤولية التي تدفعه إلى تقدُّم الصفوف من أجل التضحية، يمثّلان عاملاً رئيساً في جعل جذوة الثورة متّقدة على مدى ثلاثة أعوام، على الرغم من محاولات العسكريين وقوى الردة إخمادها بقوة السلاح. فهذه الفدائية، التي يقدّمها حرّاس المتاريس، تمثّل رأس الحربة في تغلُّب الحراك السلمي على كل أشكال القمع والتعسف من جانب السلطة.

ويضيف: "ظلت المتاريس وستظل سلاحنا الوحيد لمواجهة العنف الذي نتعرّض له من جانب القوات العسكرية خلال المواكب الاحتجاجية، وهي وسيلة قصدنا منها حماية أنفسنا، ولا تتعارض مع سلمية الحراك، بخلاف ما تزعم السلطات الحاكمة التي تراها معوّقة لحركة المواطنين والحياة العامة، وهي افتراءات غير مستندة إلى حقائق. فهذه الحواجز هدفها إيقاف وصول آليات القمع إلى حشود المتظاهرين".

واستُخدمت "المتاريس"، التي دخلت أدبيات النضال السوداني منذ نحو 6 عقود، بكثافة خلال ثورة الـ19 من كانون الأول/ديسمبر 2019، والتي أنهت حكم الجنرال عمر البشير، ولا تزال مستمرة في محاولات مستميتة من أجل تأسيس دولة مدنية ديمقراطية، وفق شعارات يرفعها المتظاهرون. ويرى كثيرون أن انتفاضة كانون الأول/ديسمبر تُعَدّ الأكثر عنفاً من جانب القوات العسكرية ضد المحتجين السلميين، مقارنة بثورتين سابقتين لم تشهدا مثل هذه التضحيات.

وبحسب إحصاءات غير رسمية، صادرة عن منظمات طوعية، فإنه قُتِل ما لا يقل عن 470 شخصاً خلال ثورة كانون الأول/ديسمبر، بينهم نحو 60 في عهد المخلوع عمر البشير، والباقون في فترة حكم المجلس العسكري، بقيادة عبد الفتاح البرهان، بمن فيهم قتلى فض اعتصام قيادة الجيش، والذين يتجاوز عددهم 200 شخص، إلى جانب 92 متظاهراً قُتِلوا خلال حركة الاحتجاج المناهضة لانقلاب الـ25 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والذي أطاح بموجبه العسكريون الحكومةَ التي يقودها عبد الله حمدوك.

أرواح تحت رحمة الأنقاض

  • هنري: لولا المتاريس لقتلت القوات العسكرية المئات في كل موكب احتجاجي.
    هنري: لولا المتاريس لقتلت القوات العسكرية المئات في كل موكب احتجاجي.

وتُعَدّ المتاريس بمنزلة دروع لحركة المقاومة السلمية في السودان، إذ يقوم المتظاهرون برصفها بخطط وتكتيكات معينة لإعاقة حركة المركبات العسكرية عن ملاحقة المواكب الاحتجاجية. ويعوّل منظمو الحراك في الميدان كثيراً على هذه الحواجز من أجل حماية الأرواح، وتقليل الخسائر وسط الحشود الثائرة.

ويقول عضو لجان المقاومة الثورية في منطقة جنوبي الخرطوم، عمر هنري، إنه لولا المتاريس لقتلت القوات العسكرية المئات في كل موكب احتجاجي. فهذه الأنقاض، التي نضعها في الطرقات، تتصدى ببراعة لسيارات الأمن، وهو ما يدفع إلى التراجع وتفض الحشود بأقل خسائر ممكنة. لذلك، فإن هذه المتاريس تستحق الثناء.

ويضيف هنري، الذي تحدث إلى الميادين نت: "اضطررنا إلى استخدام المتاريس في الاحتجاجات التي أعقبت انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان الأخير، بحيث كانت كل مواكبنا تستهدف القصر الجمهوري وجهةً لها، ولم يكُن الطريق سهلاً بطبيعة الحال، نظراً إلى الانتشار الكثيف للقوات الأمنية، والذي يسبق كل دعوة إلى التظاهر، فنقوم بإغلاق الشوارع من نقطة تجمع الحشود التي تبعد عن القصر الرئاسي نحو كيلومتر جنوباً، ونستمرّ في "تتريس" الطرق خلال تقدمنا، ونصنعها على هيئة صندوق لتسهيل انسحاب المحتجين إلى الوراء، إذ تعوّق هذه الأنقاض تقدم مركبات الشرطة والأجهزة الأخرى".

وتابع: "نستخدم المتاريس أيضاً لإنجاح دعوات العصيان المدني، كواحد من أشكال المقاومة السلمية وأسلحتها المجرَّبة ضد أنظمة الحكم القمعية. وهنا يكون الهدف منها شلَّ حركة السير في المدن أكثر من حماية الأرواح، لأن الجميع يكون في منزله لحظتها. وأثبتت فعّاليتها في كثير من المناسبات السابقة".

ولا تزال الاحتجاجات مستمرة في السودان، ومتمسكة بإسقاط الانقلاب الذي قاده قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في الـ25 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وأنهى بموجبه شراكة الحكم الانتقالي مع الائتلاف المدني - قوى الحرية والتغيير. وهو ما خلق توترات جديدة أعادت الزخم إلى المتاريس، بعد أن اعتمد عليها قادة الاحتجاجات بصورة أساسية في حماية التجمعات السلمية.

ليلة المتاريس

  • سعيد: صارت المتاريس قيمة وطنية ومعنوية وأخلاقية، ارتبطت بالشهداء ودمائهم
    سعيد: صارت المتاريس قيمة وطنية ومعنوية وأخلاقية، ارتبطت بالشهداء ودمائهم

ويشير الكاتب السوداني، الزبير سعيد، إلى أن المتاريس تمثّل موروثاً نضالياً ضارباً في القِدَم في بلاده، يعود تاريخ بروزه إلى نحو 6 عقود، وتحديداً ليلة التاسع من عام 1964، أو ما عُرِف بـ"ليلة المتاريس"، والتي كانت تتويجاً حاسماً في مسار ثورة تشرين الأول/أكتوبر المجيدة، والتي أنهت حكم الرئيس الجنرال الراحل إبراهيم عبود. وكان من بين أبطال تلك الليلة السياسي الأبرز، الراحل فاروق أبو عيسى، الذي جرى تلقيبه لاحقاً بفارس ليلة المتاريس.

وقال سعيد في حديثه إلى الميادين نت: "لقد استلهم شبّاننا اليوم ليلة المتاريس، وعملوا على تطوير هذا العمل الوقائي، حتى صارت المتاريس قيمة وطنية ومعنوية وأخلاقية، ارتبطت بالشهداء ودمائهم، وصار الجميع يتوق إلى أن يكون "ترساً"، وهو الشخص الذي يحرس هذه الحواجز، نظراً إلى ما تحمله المفردة من شرف في المشهد السوداني".

وأضاف أن "الترس هو الأكثر إيماناً بالثورة والتحول الديمقراطي الحقيقي. وحرّاس المتاريس هم خط الدفاع الأول عن الثورة، وهم الأكثر شجاعة، الأمر الذي رفع قيمتها".

المتاريس، وما تحمله من قيمة، سيطرت، بصورة لافتة، على المزاج العام في السودان. حتى الأطفال يقومون بتقليد التروس من خلال عمل حواجز خفيفة بالألعاب داخل الأحياء السكنية، ويحلقون شعرهم على هيئة حرّاس المتاريس في ميادين الثورة، بينما يردد أهل هذا البلد، في كل الشوارع، ما غناه الموسيقار محمد الأمين في مدح المتاريس، وهو من كلمات الشاعر مبارك حسن خليفة:

المتاريسُ التي شَيّدَتْها

في ليالي الثورةِ الحمراءِ

هاتيكَ الجُموعْ..

وبَنَتْها من قلوبٍ وضلوعْ..

وسَقَتْها من دماءٍ ودموعْ..

سوف تبقى شامخاتٍ في بلادي..

تكتمُ الأنفاسَ في صدرِ الأعادي..